أبو عبيدة بن الجرّاح
- إسلامه:
من السّابقين جدّاً للإسلام، أسلم على يد صديقه أبي بكر، حيث كان تاجراً مثله، وذلك قبل أن يدخل النّبيّ دار الأرقم.
يلتقي نسبه مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في فهر.
اسمه عامر بن عبد الله بن الجرّاح الفهريّ القرشيّ، اشتهر بنسبه إلى جدّه الجرّاح رغم أنّ والده كان حيّاً، بل كان له موقف شديد تجاه إسلام ولده، ولكن شاءت حكمة الله لذلك أن يطوى طيّ والده الّذي حارب إسلام ولده، وباء بالفشل في ردعه عن دينه رغم محاولاته الّتي كادت تودي بحياة ولده عامر، ثمّ لمّا عرف أنّه لن يُفلح في ردّه عن الإسلام تركه وشأنه.
- هجرته:
هاجر أبو عبيدة إلى الحبشة، بسبب ممّا تعرّض له المسلمون من تعذيب وتنكيل في مكّة، ثمّ ما لبث أن عاد إليها، حتّى أروهم رسول الله بالهجرة إلى المدينة، فصار (صاحب الهجرتين).
وآخى النّبيّ بينه وبين سيّد الأنصار سعد بن معاذ رضي الله عنهما، وكان نحيف الجسم، طويل القامة، معروق الوجه، خفيف اللّحية.
- جهاده:
كان أحد فرسان يوم بدر المشهود لهم على لسان رسول الله، بل وكان له الموقف العجيب حين عرض له والده عبد الله وأصرّ على مواجهته، فما كان منه إلّا أن استعلى بإيمانه، ولم يبال بقتال والده وقتله حين كان ذلك لأجل الله والدّين، وفيه نزل قوله تعالى في سورة المجادلة {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وفي أُحُد، فما سبق أبا بكر أحدٌ إلى رسول الله يومها إلّا أبا عبيدة الّذي ناشده بالله ليتركه ينزع حلقتي المغفر اللّتين دخلتا في وجنتي رسول الله، فنزع الأولى، فسقطت ثنيته، فحاول أبو بكر أن ينزع الثّانية، فناشده بالله أن يدعه ينزع الثّانية، فنزعها، فسقطت ثنيته الثّانية، فصار يُعرف بال (الأثرم)، فصار من أحبّ الألقاب إليه.
وشارك مع رسول الله في المشاهد كلّها، لم يتخلّف عنه.
ويوم فتح مكّة، كان أحد قادة الجيوش الأربع الّتي دخلت مكّة، وحين جاء وفد نجران وطلبوا من رسول الله أن يرسل معهم رجلاً أميناً من أصحابه يعلّمهم أمور دينهم، فقال: (أبعث معكم القويّ الأمين)، (لأبعثنّ إليكم رجلاً أميناً حقّ أمين حقّ أمين حقّ أمين)، فتمنّاها جميع الأصحاب يومها، فلمّا رأى أبا عبيدة، قال له: (اخرج معهم، فاقضِ بينهم بالحقّ فيما اختلفوا فيه)، فصار يُعرف (بالقويّ الأمين).
- بعد وفاة النّبيّ:
وسجّل التّاريخ لسيّدنا أبي عبيدة أعظم مواقفه يوم رحل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وصار المسلمون كما قالت السّيّدة عائشة كالغنم المطيرة في اللّيلة الشّاتية، وطُرح موضوع استخلاف أحد بعد رسول الله.
قال لهم سيّدنا أبو بكر: (إنّي سمعت رسول الله يقول: (إنّ لكلّ أمّة أمين وأنت أمين هذه الأمّة))، فهلمّ أبايعك، فما كان من أبي عبيدة إلّا أن قال بفهم عميق: (ما كنت لأتقدّم رجلاً أمّره رسول الله أن يؤمّنا)، فكان أوّل المبايعين لأبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. وبقي له المستشار الأمين.
وحين طلب منه وفد من المسلمين أن يؤمّر عليهم رجلاً قال: (عليكم بالهيّن اللّيّن، الّذي إذا ظُلِمَ لم يظلم، وإذا أُسيء إليه غفر، وإذا قُطِعَ وصل، رحيمٌ بالمؤمنين، شديد على الكافرين، عليكم بأبي عبيدة بن الجرّاح).
وتولّى الإشراف على بيت مال المسلمين، أليس هو أمين هذه الأمّة ؟!
وحين بدأت فتوحات بلاد الشّام، يُرسله خليفة رسول الله على رأس جيش مكوّن من (٧٥٠٠) مجاهد لمواجهة الرّوم وهم الأكثر عدداً وعدّة.
وفتح الشّام، ثمّ حمص، حتّى حرّك الرّوم جيش قوامه (٢٠٠) ألف، وكانت المواجهة في اليرموك، هناك طلب أبو عبيدة من أبي بكر المدد، فبعث له جيش خالد بن الوليد، فصار خالد القائد العام لمعركة اليرموك وأبو عبيدة على قلب الجيش، فالتقى الجيشان ودارت معركة رهيبة، وقبل أن تنتهي الحرب، جاء كتاب من المدينة ينعي فيه أبا بكر خليفة رسول الله ويُعلم باستخلاف سيّدنا عمر وقراره بعزل خالد بن الوليد عن قيادة الجيش وتولية أبي عبيدة مكانه.
غير أنّه أحسّ أنّ الأمانة تقتضي كتمان الأمر، حتّى تنتهي المعركة ولا تضعف همّة المجاهدين بوفاة أبي بكر وعزل خالد.
ولمّا انتهت المعركة، رفع أبو عبيدة الكتاب لخالد، الّذي قال له: (يرحمك الله يا أبا عبيدة، ما منعك أن تخبرني حين جاءك الكتاب ؟)، فقال بتواضعه: (كرهت أن أكسر عليك حربك، وما سلطان الدّنيا نريد ولا للدّنيا نعمل، كلّنا في الله إخوة).
وبعد ذلك أكمل سيّدنا أبو عبيدة الفتوحات بصفته (أمير الأمراء)، وأراد سيّدنا عمر أن يزور أبا عبيدة، فيأتي الشِّام، ويدخل بيت أمير الأمراء، فلا يجد فيه إلّا لبداً، وصحفة وشنّاً (الجلد البالي) وسيفاً، فطلب طعام، فجاءه بكسيرات خبز هي طعامه، فقال عمر: (غيّرتنا الدّنيا كلنا غيرك يا أبا عبيدة).
وكان جالساً يوماً مع أصحابه وهم يتمنّون، فقال: (أتمنّى بيتاً ممتلئاً رجالاً مثل أبي عبيدة).
وبقي في بلاد الشّام حتّى عام (١٨) هـ حين فشا الطّاعون بفلسطين، فكتب عمر إلى أبي عبيدة: (إنّي قد بدت حاجة إليك، فلا غنى بي عنك فيها، فإذا أتاك كتابي فأتني)، فكتب له: (قد علمت حاجة أمير المؤمنين، وهو يريد أن يستبقي من ليس بباقٍ، وإنّي من جند المسلمين ولا أرغب بنفسي عنهم، فحلّلني وائذن لي في الجلوس)، فلمّا قرأ عمر الجواب، بكى.
وهكذا بقي سيّدنا أبو عبيدة في أرض الشّام، وهو يُعَلِّم حديث رسول الله (إذا سمعتم الطّاعون بأرض، فلا تدخلوها، وإذا وقع وأنتم بها، فلا تخرجوا منها)، ولمّا أحسّ بدنوّ الأجل، وصّى قادة جيشه، فقال بعد أن أوصاهم بتقوى الله والتزام أمره : (إنّ امرءاً لو عمّر ألف حول ما كان له، بدّ من أن يصير إلى مصرعي هذا الّذي ترون، إنّ الله كتب الموت على بني آدم، فهم ميّتون، وأكيسهم أطوعهم لربّه، وأعملهم ليوم معاده)، وقال: (أقرئوا أمير المؤمنين السّلام، وأعلموه أنّه لم يبقَ من أمانتي شيء إلّا قد وقمت به وأدّيته، والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته).
يا معاذ بن جبل صلِّ بالنّاس، وأخذ يردد قول رسول الله: (الطّاعون شهادة لكلّ مسلم)، ولمّا خطب معاذ بن جبل بعد وفاته، قال: (إنّكم فُجعتم برجل، ما أزعم أنّي والله رأيت من عباد الله قطّ أقلّ حقداً، ولا أبرّ صدراً، ولا أبعد غائلةً، ولا أشدّ حياءً للعاقبة، ولا أنصح للعامّة منه، فترحّموا عليه).