الدرس الثامن:
عند النشوز والشقاق والطلاق
مرّ معنا أن من حق الزوج على الزوجة ألا تهجر له فراشا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إِذَا بَاتَتِ المَرْأَةُ مُهَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا، لَعَنَتْهَا المَلاَئِكَةُ حَتَّى تَرْجِعَ). وألا تدخل أحدا بيته دون علمه وإذنه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه).
وعند أحمد وغيره: “إِذَا صَلَّتِ الْمَرْأَةُ خَمْسَهَا، وَصَامَتْ شَهْرَهَا، وَحَفِظَتْ فَرْجَهَا، وَأَطَاعَتْ زَوْجَهَا قِيلَ لَهَا: ادْخُلِي الْجَنَّةَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ شِئْتِ”.
على كل من الزوجين أن يصبر على صاحبه:
لذا يجب على المسلم أن يصبر على زوجته، إذا رأى منها بعض ما لا يعجبه من تصرفها، ويعرف لها ضعفها بوصفها أنثى، فوق نقصها باعتبارها إنسانًا، ويعرف لها حسناتها بجانب أخطائها، ومزاياها إلى جوار عيوبها.
وفي الحديث: (لا يَفْرَك ـ أي لا يُبغض ـ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خلقا رضي منها آخر). وقال تعالى: ((وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)).
وكما أوجب الإسلام على الزوج الاحتمال والصبر على ما يكره من زوجته، أُمرت الزوجة هي الأخرى أن تعمل على استرضاء زوجها، بما عندها من قدرة وسحر، وحذّرها أن تبيت، وزوجها غاضب.
وفي الحديث: (ثلاثة لا ترتفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أمَّ قومًا وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان ـ متخاصمان).
عند النشوز والشقاق:
وبما أن الرجل هو سيد البيت، ورب الأسرة، بحكم تكوينه واستعداده، ووضعه في الحياة، وبذله للمهر، ووجوب النفقة عليه، فلا يحل للمرأة أن تخرج عن طاعته، وتتمرد على سلطانه، فتفسد الشركة، وتضطرب سفينة البيت أو تغرق، ما دام لا ربان لها.
وإذا لاحظ الزوج على زوجته مظاهر النشوز والعصيان له، والترفع عليه، فعليه أن يحاول إصلاحها بكل ما يقدر عليه؛ مبتدئا بالكلمة الطيبة، والوعظ المؤثر، والإرشاد الحكيم.
فإن لم تُجْدِ هذه الوسيلة هجرها في مضجعها، محاولا أن يستثير فيها غريزة الأنثى؛ لعلها تنقاد له ويعود الصفاء.
فإن لم تُجْدِ هذه ولا تلك، جرب التأديب باليد؛ مجتنبا الضرب المُبرح، مبتعدا عن الوجه، وهو علاج يجدي في بعض النساء، في بعض الأحوال بقدر معين. وليس معنى الضرب هنا أن يكون بسوط أو خشبة، وإنما هو مِن نوع ما قاله عليه السلام لخادم عنده أغضبته في عمل: (لولا القصاص يوم القيامة، لأوجعتكِ بهذا السواك).
وقد نفَّر النبي صلى الله عليه وسلم من الضرب وقال: (علام يضرب أحدكم امرأته ضرب العبد، ولعله يجامعها في آخر اليوم)، وقال في شأن من يضربون نساءهم: (لا تجدون أولئك خياركم).
قال الإمام الحافظ ابن حجر: “وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا تجدون أولئك خياركم) دلالة على أن ضربهن مباح في الجملة، ومحلّ ذلك أن يضربها تأديبا إذا رأى منها ما يكره، فيما يجب عليها فيه طاعته، فإن اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل، ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام، لا يعدل إلى الفعل، لما في وقوع ذلك من النفرة المضادة لحسن العشرة المطلوبة في الزوجية، إلا إذا كان في أمر يتعلق بمعصية الله”.
وقد أخرج مسلم في الباب حديث عائشة: “ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط بيده، ولا امرأة ولا خادما، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله، فينتقم لله عزّ وجلّ”.
فإن لم ينفع هذا كله، وخيف اتساع الشُّقة بينهما تَدَخل المجتمع الإسلامي وأهل الرأي والخير فيه، يحاولون الإصلاح، فيبعثون حكما من أهله، وحكما من أهلها، من أهل الخير والصلاح، عسى أن تصدق نيتهما في لَمِّ الشعث وإصلاح الفاسد، فيوفق الله بينهما.
وفي هذا كله قال تعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)).
هنا فقط يباح الطلاق
وهنا، وبعد أن فشلت تلك التجارب كلها، وخابت تلك الوسائل جميعها، يباح للزوج أن يلجأ إلى وسيلة أخيرة شرعها الإسلام، استجابة لنداء الواقع، وتلبية لداعي الضرورة، وحلا لمشكلات لا يحلها إلا الفراق بالمعروف.. تلك هي وسيلة (الطلاق).
أجاز الإسلام اللجوء إلى هذه الوسيلة على كره، ولم يندب إليها ولا استحبها، وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق). وجاء عنه: (ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطلاق).
والتعبير بأنه حلال مبغوض إلى الله، يشعر بأنه رخصة شُرعت للضرورة، حين تسوء العشرة، وتستحكم النُّفرة بين الزوجين، ويتعذر عليهما أن يقيما حدود الله وحقوق الزوجية. وقد قيل: إن لم يكن وِفاق فَفِراق. وقال تعالى: ((وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ)).
الطلاق قبل الإسلام:
وليس الإسلام هو الدين الفذُّ الذي أباح الطلاق، فقبل الإسلام كان الطلاق شائعا في العالم كله ـ إذا استثنينا أمة أو أمتين ـ وكان الرجل يغضب على المرأة فيطردها من داره، محقًّا أو مبطلا، دون أن تملك المرأة له دفعا، أو تأخذ منه عِوضا، أو تجد لنفسها عنده حقًّا.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: (ولما نبه ذكر الأمة اليونانية، وازدهرت حضارتها، كان الطلاق شائعا فيها بلا قيد ولا شرط).
وكان الطلاق لدى الرومانيين معتبرا من كيان الزواج نفسه، حتى إن القضاة كانوا يحكمون ببطلان الزواج إن اشترط كلا الطرفين عدم الطلاق فيه.
وكان الزواج الديني لدى الأجيال الأولى للرومانيين يحرم الطلاق، ولكنه في الوقت نفسه يمنح الزوج على امرأته سلطانا لا حد له. فيبيح له أن يقتلها في بعض الأحوال، ثم رجعت ديانتهم فأباحت الطلاق، كما كان مباحا أمام القانون المدني.
الطلاق في الديانة اليهودية:
أما الديانة اليهودية، فقد حسنت من حالة الزوجة، ولكنها أباحت الطلاق، وتوسعت في إباحته. وكان الزوج يُجبر شرعا على أن يطلق امرأته إن ثبتت عليها جريمة الفسق، حتى ولو غفر لها تلك الجريمة، وكان القانون يجبره أيضا على أن يطلق امرأته، إن لبثت معه عشر سنين، ولم تأته بذرية.
الطلاق في الديانة المسيحية:
والمسيحية هي الديانة التي شذَّت عما ذكرنا من ديانات، وخالفت الديانة اليهودية نفسها. وأعلن الإنجيل على لسان المسيح تحريم الطلاق، وتحريم زواج المطلِّقين والمطلَّقات، ففي إنجيل متّى: “قد قيل: من طلق امرأته، فليدفع إليها كتاب طلاق. أما أنا فأقول لكم: من طلق امرأته إلا لعلة الزِّنَى فقد جعلها زانية، ومن تزوج مطلَّقة فقد زنى”.
وفي إنجيل مرقس: “من طلق امرأته وتزوج بأخرى: يزني عليها. وإذا طلقت المرأة زوجها، وتزوجت بآخر، ارتكبت جريمة الزِّنى”.
وقد علل الإنجيل هذا التحريم القاسي بأن “ما جمعه الله لا يصح أن يفرقه الإنسان”.
وهذه الجملة صحيحة المعنى، ولكن جعلها علة لتحريم الطلاق هو الشيء الغريب، فإن معنى أن الله جمع بين الزوجين؛ أنه أذن بهذا الزواج وشرعه، فصح أن ينسب الجمع إلى الله، وإن كان الإنسان هو المباشر لعقد الزواج.
فإذا أذن الله في الطلاق، وشرعه لأسباب ومسوغات تقتضيه، فإن التفريق حينئذ يكون من الله أيضًا، وإن كان الإنسان هو الذي يباشر التفريق. وبهذا يتضح أن الإنسان لا يكون مُفرقًا ما جمعه الله، وإنما المُجَمِّع والمفرق هو الله جل شأنه، أليس الله هو الذي فرَّق بينهما بسبب الزِّنى؟ فلماذا لا يفرق بينهما بسبب آخر يوجب الفراق؟!
اختلاف المذاهب المسيحية في شأن الطلاق:
ورغم أن الإنجيل استثنى من تحريم الطلاق ما إذا كان السبب (علة الزنى) فإن أتباع المذهب الكاثوليكي يؤولون هذا الاستثناء، ويقولون: (ليس المعنى هنا أن للقاعدة شذوذا، أو أن هناك من القضايا ما يسمح فيه بالطلاق. فلا طلاق البتة في شريعة المسيح. والكلام هنا ـ في قوله: إلا لعلة الزنى ـ عن عقد فاسخ في ذاته، فليس له من شرعية العقد وصحته إلا الظواهر، إنه زنى ليس إلا. ففي هذه الحالة يحل للرجل، لا بل يجب عليه أن يترك المرأة).
أما أتباع المذهب البروتستانتي؛ فيجيزون الطلاق في أحوال معينة منها حالة زِنى الزوجة وخيانتها لزوجها، وبعض حالات أخرى زادوها على نص الإنجيل، ولكنهم ـ وإن أجازوا الطلاق لهذا السبب أو ذاك ـ يحرمون على المطلِّق والمطلَّقة أن ينعما بحياة زوجية بعد ذلك.
وأتباع المذهب الأرثوذكسي قد أجازت مجامعهم الِملِّية في مصر الطلاق، إذا زنت الزوجة كما نص الإنجيل، وأجازوه لأسباب أخرى، منها العقم لمدة ثلاث سنين، والمرض المعدي، والخصام الطويل الذي لا يُرجَى فيه صلح. وهذه أسباب خارجة على ما في الإنجيل، ومن أجل ذلك أنكر المحافظون من رجال هذا المذهب اتجاه الآخرين إلى إباحة الطلاق لهذه الأسباب، كما أنكروا إباحة الزواج للمطلق أو المطلقة بحال من الأحوال.
وعلى هذا الأساس رفضت إحدى المحاكم المصرية المسيحية دعوى زوجة مسيحية تطلب الطلاق من زوجها، لأنه مُعسر، وقالت المحكمة في حكمها: “إنه من العجيب أن بعض القوامين على الدين من رجال الكنيسة وأعضاء المجلس الِملِّي العام، قد سايروا التطور الزمني، فاستجابوا لرغبات ضعيفي الإيمان، فأباحوا الطلاق لأسباب لا سند لها من الإنجيل. وحكم الشريعة المسيحية قاطع، في أن الطلاق غير جائز إلا لعلة الزِّنى. وترتب على زواج أحد المطلِّقين بأنه زواج مدنس، بل هو الزنى بعينه”.
نتيجة تزمت المسيحية في الطلاق:
ولقد كان من نتيجة هذا التزمت الغريب من المسيحية في أمر الطلاق، وإهدار الطبيعة الإنسانية والمقتضيات الحيوية، التي توجب الانفصال في بعض الأحيان: كان من نتيجة ذلك تمرد المسيحيين على دينهم، ومروقهم من وصايا أناجيلهم، كما يمرق السهم من الرميَّة.
ولم يستطيعوا إلا أن (يفرقوا ما جمعه الله)! فاصطنع أهل الغرب المسيحي قوانين مدنية، تبيح لهم الخروج من هذا السجن المؤبد، ولكن كثيرا منهم كالأمريكان أسرفوا، وأطلقوا العِنان في إباحة الطلاق ـ كأنهم يتحدون الإنجيل ـ وبذلك يوقعونه لأتفه الأسباب، وأصبح عقلاؤهم يَشْكُون من هذه الفوضى التي أصابت هذه الرابطة المقدسة، والتي تهدد الحياة الزوجية ونظام الأسرة بالانهيار، حتى أعلن أحد قضاة الطلاق المشهورين هناك، أن الحياة الزوجية ستزول من بلادهم، وتحل محلها الإباحة والفوضى في العلاقة بين النساء والرجال في زمن قريب، وهي الآن كشركة تجارية ينقضها الشريكان لأوهى الأسباب، خلافا لهداية جميع الأديان؛ إذ لا دين ولا حب يربطهما، بل الشهوات والتنقل في وسائل المسرات.
كُفْرٌ فَرِيدٌ في بابه:
وهذه الظاهرة.. وهي السير في الأحوال الشخصية وفق قانون مدني، يختلف عن تعاليم الدين، لا تكاد تُوجد في غير شعوب الغرب المسيحي، فجميع أهل الملل والنحل الأخرى، حتى البرهميون والبوذيون والوثنيون والمجوس، يسيرون في أحوالهم الشخصية وفق تعاليم دياناتهم.
وقد نجد من بينهم من استحدث في الأحوال العينية قوانين مدنية، تختلف عن تعاليم دينه. ولكننا لا نجد من بينهم من استحدث قوانين مدنية في الأحوال الشخصية ـ أي في شؤون الزواج والطلاق وما إلى ذلك ـ وأمكن لهذه الملل والنحل أن تساير الحياة العملية، وتجاري طبيعة البشر في هذه الشؤون.
والمسيحيون وحدهم هم الذين كفروا بدينهم من الناحية العملية في الأحوال الشخصية على العموم، وفي شؤون الطلاق على الخصوص؛ لأنهم هم أنفسهم قد وجدوا أن تعاليمه في هذا الصدد تنكر الواقع، وتتجاهل طبيعة الإنسان، ولا تصلح للتطبيق في الحياة.
المسيحية كانت علاجا مؤقتا لا شريعة عامة:
وإن صح ما جاء في الإنجيل بشأن الطلاق، ولم يكن هذا من التغيير الذي أصاب الأناجيل في قرونها الأولى، فلا شك أن الذي يتأمل في الأناجيل ـ حتى بوضعها الحاضر ـ يتبين له أن المسيح عليه السلام، لم يكن يقصد إلى وضع شريعة عامة خالدة للناس جميعا. وإنما جاء ليقاوم تجاوز اليهود حدودهم، فيما رخص الله لهم فيه، كما صنعوا في أمر الطلاق.
فقد جاء في الفصل التاسع عشر من إنجيل متى: أن المسيح حين انتقل من الجليل وجاء إلى تخوم اليهودية عبر الأردن، دنا إليه الفريسيون ليجربوه قائلين: هل يحل للإنسان أن يطلق زوجته لأجل كل علة؟ (أي سبب)، فأجابهم قائلا: أما قرأتم أن الذي خلق الإنسان في البدء ذكرا وأنثى، خلقهم، وقال: لذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما جسدا واحدا، فليسا هما اثنين بعد، ولكنهما صارا جسدا واحدا، وما جمعه الله فلا يفرقه الإنسان، فقالوا له: فلماذا أوصى موسى أن تُعطى (أي المرأة) كتاب طلاق وتُخلَّى؟ فقال لهم: إن موسى لأجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم، ولم يكن من البدء هكذا. وأنا أقول لكم: من طلق امرأته إلا لعلة زنى، وأخذ أخرى فقد زنى، ومن تزوج مطلَّقة فقد زنى. فقال تلاميذه: إن كانت هكذا حال الرجل مع امرأته، فأجدر له ألا يتزوج.
فالواضح من هذا الحوار: أن المسيح إنما أراد أن يحدّ من غلوّ اليهود، في استعمال الإذن في الطلاق الذي أعطاهم موسى، فعاقبهم بتحريم الطلاق عليهم، إلا إذا زنت المرأة، فهو علاج مؤقت لفترة مؤقتة، حتى تأتي الشريعة العامة الخالدة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
وليس من المعقول أن المسيح يريد هذا شرعا أبديا لكل الناس، فإن حوارييه وأخلص تلاميذه أنفسهم، أعلنوا استثقالهم لهذا الحكم العنيف، وقالوا: “إن كان هذا شأن الرجل مع امرأته، فأجدر له ألا يتزوج”! فإن مجرد الزواج من امرأة يجعلها في عنقه غُلا، لا يمكن الانفكاك عنه بحال، مهما امتلأ قلبه من البغض لها، والضيق بها، والسخط عليها، ومهما تنافرت طباعهما واتجاهاتهما.
وقديما قال الحكيم: إن من أعظم البلايا مصاحبة مَن لا يوافقك ولا يفارقك.
وقال الشاعر العربي:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى … عدوا له ما مِن صداقته بدُّ
قيود الإسلام للحد من الطلاق:
هذا، وقد وضعت الشريعة الإسلامية الغراء قيودا عديدة في سبيل الطلاق؛ حتى ينحصر في أضيق نطاق مستطاع.
فالطلاق بغير ضرورة تقتضيه، وبغير استنفاد الوسائل الأخرى التي ذكرناها، طلاق محرم محظور في الإسلام؛ لأنه ـ كما قال بعض الفقهاء ـ ضرر بنفسه وبزوجته، وإعدام للمصلحة الحاصلة لهما، من غير حاجة إليه، فكان حراما كإتلاف المال، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).
وأما ما يصنعه الذواقون المطلاقون، فهذا شيء لا يحبه الله ولا رسوله ومما رُوي: (إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات). وقال عبد الله بن عباس: إنما الطلاق عن وَطَر.
طلاق المرأة وهي حائض حرام:
وإذا وجد الوطر والحاجة التي تسوغ الطلاق، فليس مباحا للمسلم أن يسارع إليه في أي وقت شاء؛ بل لا بد من تخير الوقت المناسب.
والوقت المناسب ـ كما حددته الشريعة ـ أن تكون المرأة طاهرًا، ليس بها حيض ولا نفاس، وألا يكون قد جامعها في هذا الطهر خاصة، إلا إذا كانت حاملا قد استبان حملها.
ذلك أن حالة الحيض ـ ومثله النفاس ـ توجب اعتزال الزوج لزوجته، فربما كان حرمانه أو توتر أعصابه، هو الدافع إلى الطلاق، لهذا أمر أن ينتظر حتى ينتهي الحيض ثم تطهر، ثم يطلقها قبل أن يمسها.
ويحرم عليه أن يطلقها في وقت الحيض، كما يحرم عليه أيضا أن يطلقها وهي طاهر بعد أن يكون قد اتصل بها، فمن يدري لعلها علقت منه في هذه المرة، ولعله لو علم بحملها لغيَّر رأيه في فراقها، ورضي العِشرة معها من أجل الجنين الذي في بطنها.
فإذا كانت طاهرا لم يمسسها، أو كانت حاملا قد استبان حملها، عُرِف أن الدافع إلى الطلاق إنما هو النُّفْرة المستحكمة، فلا حرج عليه حينئذ أن يطلقها.
وفي الصحيح: أن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (مره فليراجعها، ثم إن شاء طلقها وهي طاهر قبل أن يمسَّ، فذلك الطلاق للعِدّة).
كما أمر الله تعالى في قوله: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ)). أي مستقبلات عدتهن، وذلك في حالة الطهر. وفي رواية: (مره فليراجعها، ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا).
ولكن هل ينفذ الطلاق ويقع، أم لا يقع؟
المشهور أنه يقع، ويكون المطلق آثما. وقال طائفة من الفقهاء: لا يقع؛ لأنه طلاقٌ لم يشرعه الله تعالى البتة، ولا أذن فيه، فليس من شرعه؛ فكيف يقال بنفوذه وصحته؟
وقد روى أبو داود: أن ابن عمر سُئل: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضا؟ فقصَّ على السائل قصته حين طلق امرأته وهي حائض، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها عليه، ولم يرها شيئا.
الحلف بالطلاق حرام:
ولا يجوز للمسلم أن يجعل من الطلاق يمينًا، يحلف به على فعل هذا أو ترك ذاك، أو يهدد زوجته؛ إن فعلت كذا فهي طالق.
فإن لليمين في الإسلام صيغة خاصة لم يأذن في غيرها، وهي الحلف بالله تعالى؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف بغير الله فقد أشرك)، وقال: (من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
المطلقة تبقى في بيت الزوجية مدة العدة:
والواجب في شريعة الإسلام أن تبقى المطلقة في بيتها ـ أي بيت الزوجية ـ مدة العدة، ويحرم عليها أن تخرج من البيت، كما يحرم على الزوج أن يُخرجها منه بغير حق، وذلك أن للزوج ـ طوال مدة العدة ـ أن يراجعها، ويردها إلى حظيرة الزوجية مرة أخرى ـ إذا كان هذا هو الطلاق الأول أو الثاني ـ وفي وجودها في البيت قريبا منه إثارة لعواطفه، وتذكير له أن يفكر في الأمر مرة ومرة، قبل أن يبلغ الكتاب أجله، وتنتهي أشهر العدة التي أمرت أن تتربصها استبراء للرحم، ورعاية لحق الزوج وحرمة الزوجية، والقلوب تتغير، والأفكار تتجدد، والغاضب قد يرضى، والثائر قد يهدأ، والكاره قد يحب، وما أسرع تقلبات الزمان.
وفي ذلك يقول الله تعالى في شأن المطلقات: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)).
وإن كان لا بد من الفراق بين الزوجين، فالمطلوب منهما أن يكون بمعروف وإحسان، بلا إيذاء ولا افتراء ولا إضاعة للحقوق. قال تعالى: ((فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ)). وقال: ((فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ)). وقال: ((وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)).
وقد شرع الله تبارك وتعالى في كتابه هذه المكافآت الزوجية، التي يدفعها الزوج حقا عليه لمطلقته، ولم يحدد مقدارها، ولكنها: ((مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ)) يخضع لقدرة الرجل المالية، ولمنزلة المرأة، وعدد السنين التي تقيمها معه، وغير ذلك مما يمكن لأهل الخبرة في المجتمع أن يقدروه.
الطلاق مرة بعد مرة:
وقد منح الإسلام للمسلم ثلاث تطليقات في ثلاث مرات، على أن يطلقها كل مرة في طهر لم يجامعها فيه طلقة واحدة، ثم يَدَعَها حتى تنقضي عدتها، فإن بدا له أن يمسكها في العدة أمسكها، وإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها، أمكن أن يردها إليه بعقد جديد، وإن لم يكن له فيها غرض، لم يضره أن تتزوج بزوج غيره.
فإن أعادها إلى عصمته بعد الطلقة الأولى، ثم حدث بينهما النفور والشقاق مرة ثانية، وعجزت الوسائل الأخرى عن تصفية الجو بينهما، فله أن يطلقها للمرة الثانية ـ على الطريقة التي ذكرناها ـ وله أيضا أن يراجعها في العدة بغير عقد، أو يعيدها بعد العدة بعقد جديد.
فإذا عاد فطلقها للمرة الثالثة كان هذا دليلا واضحًا على أن النُّفرة بينهما مستحكمة، والوفاق بينهما غير مستطاع. لهذا لم يجزْ له بعد التطليقة الثالثة أن يردها إليه، ولا تحل له بعد ذلك حتى تنكح زوجا غيره زواجا شرعيا صحيحا، مقصودا لذاته، لا لمجرد تحليلها للزوج الأول.
ومن هذا نرى أن المسلم الذي يجمع هذه المرات الثلاث في مرة واحدة أو لفظة واحدة، قد ضادَّ الله فيما شرعه، وانحرف عن صراط الإسلام المستقيم.
وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبانَ ثم قال: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم؟! حتى قام رجل فقال: يا رسول ألا أقتله).
إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان:
وإذا طلق الزوج زوجته ـ الطلقة الأولى أو الثانية ـ وبلغت الأجل المحدد لها ـ أي قاربت عدتها أن تنقضي ـ كان على الزوج أحد أمرين:
- إما أن يمسكها بمعروف. ومعنى ذلك: يرجعها بقصد الإحسان والإصلاح، لا بقصد المشاكسة والإضرار.
- وإما أن يسرحها ويفارقها بمعروف، بأن يتركها حتى تنقضي عدتها، ويتم الانفصال بينهما بلا تشويش ولا مضارَّة، ولا مشاحة فيما لأحدهما على الآخر من حقوق.
ولا يحل له أن يراجعها قبيل انقضاء عدتها منه، قاصدًا إيذاءها بإطالة العدة عليها، وحرمانها من التزوج بغيره أطول مدة يستطيعها. وهكذا كان يفعل أهل الجاهلية.
وقد حرم الله هذه المضارَّة للمرأة في محكم كتابه، بأسلوب ترعد منه الصدور، وتَوجَل القلوب. قال تعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)).
وبالتأمل في هذه الآية الكريمة، نجدها قد اشتملت على سبع فقرات، فيها تحذير بعد تحذير، وتذكير يتلوه تذكير، ووعيد على إثر وعيد، وكفى بذلك ذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.