الإمام الذهبي
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الإمام العلامة، شيخ المحدثين، قدوة الحفاظ والقراء، محدث الشام ومؤرخه ومفيده الشيخ الإمام، الحافظ الهمام، مفيد الشام ومؤرخ الإسلام، ناقد المحدثين وإمام المعدلين والمجرحين، إمام الوجود حفظا، وذهب العصر معنى ولفظا وشيخ الجرح والتعديل ورجل الرجال في كل سبيل الحافظ الذي لا يجارى، اللافظ الذي لا يبارى، سيد الحفاظ، وفارس المعاني والألفاظ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي رحمه الله.
عصر الحافظ الذهبي
عاش في الربع الأخير من القرن السابع الهجري وحتى منتصف القرن الثامن الهجري زمن المماليك في عصر ازدهار العلم وانتشار العلماء، وكانت دمشق ومصر حواضر العالم الإسلامي ومقصد علمائه، فانتشرت المدارس الكبرى التي حوت بضع وأربعين حلقة لاقراء العلم كما في جامع عمرو بن العاص في مصر وثلاثة وسبعون متصدرا لاقراء القران في الجامع الأموي في دمشق.
وكثرت التآليف والمصنفات في شتى العلوم والمعارف بعد أن كادت تندثر خاصة إذا ما قورنت بالعصور الذهبية حيث كان يحضر مجلس المحدث عشرة آلاف نفس من أصحاب المحابر وهناك من يحدث بحفظه بأكثر من خمسين ألف حديث كما كان أصحاب القرون الأولى.
و هذا جبل قاسيون في الشام يحتضن رفات أكثر من مئة من شيوخ الحديث توفوا سنة 699هـ، ومن الحفاظ من يحفظ مائة ألف حديث واخر يناظر في ثلاثمائة الف حديث ومنهم من ينفق أكثر من سبعمائة الف درهم في طلبه للعلم، واخر يقيم مأدبة بألف دينار لما فرغ من سماع السنن.
اسمه: محمد بن أحمد بن عثمان التركماني الفارقي الدمشقي الشافعي.
لقبه: شمس الدين أبو عبد الله.
ولد في 3 ربيع الآخر سنة 673هـ في قرية كفر بطنا قرب دمشق ونسبته الفارقي نسبة إلى (ميافارقين) أشهر مدن ديار بكر لذلك التركماني ثم الدمشقي.
عائلته: جده عثمان أول من سكن دمشق من أجداده توفي سنة 683هـ، وكان رجلا أميا وكان يعمل نجارا.
والده شهاب الدين احمد، ولد 641هـ، وعمل بالذهب فعرف بالذهبي طلب العلم وسمع صحيح البخاري وحج، وكان يصرف مالا وفيرا في وجوه الخير حتى أعتق خمس رقاب ولما مات صلى عليه خلق كثير لذلك اشتهر عالمنا بالذهبي أو ابن الذهبي.
عمته: ست الأهل بنت عثمان وهي أمه بالرضاعة أخذت عدة إجازات عن علماء عصرها وأخذ الأمام الذهبي عنها.
جده لأمه كان يعتني به وهو صغير، ويصحبه معه ليسمع اخبار الدولة، خاله علي من طلبة العلم ورحل للسماع من الشيوخ وهو أكبر من الذهبي بخمس عشر سنة وابن خاله اسماعيل طلب العلم و حدث.
زوج خالته ابن الحرستاني سمع الحديث ورواه, أبوه من الرضاعة ابراهيم العطار الدمشقي كان له عناية بالعلم و الرواية و اخذ الذهبي عنه, أخوه من الرضاعة داود بن إبراهيم كان فقيها عالما رحل في طلب العلم وسماع الحديث وسمع منه الذهبي وروى عنه, اخوه الاخر من الرضاعة علاء الدين العطار كان فقيها محدثا فقيها علامة صحب النووي وأخذ عنه وعنه أخذ الإمام الذهبي و ترجم له.
فكان من الطبيعي أن تعتني العائلة بابنها وينشأ على الأخلاق الفاضلة ومحبة العلم والعلماء ومجالسهم وكان دون 13 عام, ثم دفعوا به الى أحد المؤدبين، وهو علاء الدين البصبص الذي مكث عنده أربع سنوات ثم انتقل الى المقرئ الصالح مسعود بن عبد الله وقرأ عليه اربعون ختمة.
أسرته:
تزوج الذهبي بامرأة صالحة من أهل بلدته وكانت شيخة صالحة ورُزِق منها بثلاثة أولاد.
- ابنته امة العزيز أم سلمة وقد أجازها عدد من المشايخ وتزوجت وأنجبت عبد القادر بن محمد (ابن القمر الدمشقي).
- ابنه أبو الدرداء عبد الله وأسمعهُ أبوه من خلق كثير.
- ابنه شهاب الدين أبو هريرة عبد الرحمن وكان مُسنِد الشام في عهده وخلفه محمد الذي سمع من أبيه وجده.
فالأبناء والأحفاد انتفعوا بالامام الذهبي وأخذوا عنه.
طلبه للعلم:
كان أول سماعه وهو ابن عشر سنين، وابتدأ طلب العلم عندما بلغ الخامسة عشرة واستمرت رحلته 27 سنة واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ ترجم في معجمه ل 1278 شيخ منه 102 شيخة، ومنهم من كانوا من أقرانه فأخذوا عنه وأخذ عنهم مثل ابن تيمية، وابن الصابوني، وتقي الدين السبكي، وابن قيم الجوزية.
وكانت قد تأخرت رحلته في طلب العلم لرفض والده ذلك حيث كان وحيد والديه وكم تحسر الذهبي على تأخر رحلته وكان لا يحب أن يعقه وحتى لما أذن له وهو ابن عشرين اشترط عليه أن لا يغيب أكثر من 4 أشهر في الرحلة الواحدة، ففعل برًا به.
وكان قد طوف بلاد الشام كلها من دمشق وبصرى وحمص وحماة وحلب وبعلبك وطرابلس والقدس ونابلس والرحلة ومعان والكرك في رحلته الأولى، ثم رحلته الثانية إلى الديار المصرية سنة 695هـ، ثم رحلته الى الحج في سنة 498هـ، فزادت عن خمسين مدينة.
العلوم التي برع فيها:
- القرآن الكريم
حيث صحب قراء عصره وأخذ عنهم وجمع القراءات وقرأ عليهم كتب القراءات والتجويد ومصنفات عديدة في علوم القرآن حتى تسلم الإقراء في الجامع الأموي وهو ابن عشرين سنة، وترك في هذا الميدان عدة مؤلفات جمع فيها آراءه و اتفاتاته القيمة وكان يقيم القراء ويترجم لهم.
- الحديث الشريف
حيث طلب الحديث منذ أن كان في الثامنة عشر من عمره ورحل لأجله وسمع من خلف كثير حتى في أصعب الحالات كقراءته على شيخ أصم فقرأ عليه باقوى صوته في أذنه وسعيه لتحصيل أعلى الأسانيد وتكثير طرق الحديث فروى حديثا عن 70 شيخ وآخر عن 112 وآخر عن 130 شيخ للحديث الواحد.
فعلم من ذلك أحوال الشيوخ من معرفة الرجال ونقد الأسانيد المؤتِلف والمختلف فجرح وعدل حتى غدا علم الأعلام وحافظ الزمان وحامل لواء الإسناد وعلم الجرح والتعديل من مفاخر الحضارة الإسلامية وأفخم تراثها، فالحكم على الأشخاص ليس كلمة واحدة بل مراتب متعددة فأعلاها ثبت حجة، ثبت حافظ، ثقة متقن، ثقة ثقة، ثقة صدوق، لا بأس به، صدوق ان شاء الله و صويلح.
وأردى العبارات: دجال كذاب، وضاع (يضع الحديث)، متهم بالكذب، متفق على تركه، متروك ليس بثقة، ليّن, سيء الحفظ، لا يحتج به، وبذلك اكتملت أدوات الجرح والتعديل عنده وغاص في بحره العميق وأطوله من الأطر والقواعد ما يحفظه عن الهوى والتعصب.
فنراه يعتبر كلام الأقران بعضهم ببعض “يطوى ولا يروى” و “أنه لو سمعنا كلام الأقران بعضهم ببعض لتسع الخرف” فأقام الجرح والتعديل على الاعتدال بعيدا عن التعنت وعن التساهل من جهة ثانية وكتب العديد من الكتب في هذا المجال.
- المؤرخ
فقد حبب إليه علم التاريخ بفنونه، ساعده بذلك اطلاعاته الواسعة وقراءاته الشاملة وكثرة الموارد التي اعتمد عليها. فكتب تأليفا واختصارا وتذييلا وانتقاء, فنراه يستوعب في مؤلفاته تاريخ الإسلام، العِبر، دول الإسلام، كل عصور التاريخ الإسلامي من ظهور الإسلام حتى عام 740هـ أي قبيل وفاته.
- الفقه
وإن كانت شهرته فيه أقل من غيره، غير أنه أخذ عن فقهاء عصره وعرف عنه أنه شافعي المذهب، غير أنه لم يكن يتعصب لمذهب بل يدور مع الحق أينما يدور.
- اضافة لكونه اللغوي الأديب
الذي اعتنى بالعربية وبرع فيها واعتنى بالشعر وله فيها قصائد بل وبرع في الخط وسمع من شيخه علم الدين “خطك يشبه خط المحدثين” أي برمجة هذه! اضافة لكونه ناقدا شموليا منصفا في تراجمه وإن حملت تراجمه شيئا من الميل والتعامل على فريق دون آخر.
مناصبه:
الاقراء، الخطابة، مشيخة دور الحديث.
عوامل أسهمت في تكوين شخصيته:
- أسرته
- رفقته فكم تأثر بهم وأثر بهم
ولم يمنعه ذلك من مخالفتهم في بعض آرائهم وانتقاده لهم كما في مخالفته لابن تيمية في مسألة شد الرحال لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيرى أنه من وقف عند الحجرة المقدسة ذليلا مسلما مصليا على نبيه فيا طوبى له وقد أحسن الزيارة وأجمل في التذلل والحب.
وأنه شد الرحال الى نبينا مستلزم لشد الرحل الى مسجده وذلك مشروع بلا نزاع إذ لا وصول الى حجرته إلا بعد الدخول من مسجده، ومن ذلك أن معيار كمال الحب ان يؤثر شعرة نبوية على كل ذهب وفضة في أيدي الناس، فلو وجد بعض شعره بإسناد ثابت أو شسع نعل أو قلامة أظافر، فلو بذل الغني معظم أمواله في تحصيل ذلك أكنت تعده مبذرا أو سفيها؟ كلا و يقول: ولو ظفرنا بالمحجن الذي أشار به الرسول الى ذلك الحجر ثم قبل محجنه لحق لنا أن نزدحم على ذلك المحجن بالتقبيل و التبجيل.
و يذكر في ترجمة الإمام أحمد أنه أخذ شعرة من شعر النبي ووضعها على فيه وقبلها وأحسبه وضعها على عينه ويغمسها في الماء ويشربه ليستشفي به.
بل انه سُئل من يلمس رمانة منبر النبي ويمس الحجرة النبوية، فقال: لا أرى بذلك بأسا بل سُئل أحمد بن حنبل عن مس القبر النبوي وتقبيله فلم ير بذلك بأسا، يقول الذهبي فلماذا لم يفعله الصحابة؟ لأنهم عاينوه حيًّا و قبلوا يده وكادوا يقتتلون على وضوءه ونحن لما لم يصح لنا هذا النصيب الأوفر ترامينا على قبره بالالتزام و التبجيل.
مصنفاته:
بقي يصنف قرابة نصف قرن من الزمن في موضوعات مختلفة في العقيدة والقراءات والحديث وفنونه والتاريخ والتراجم وتواريخ البلدان والفقه وأصوله وغيرها.
ومن حيث حجمها فمنها الكبير كتاريخ الأسلام اربعون مجلد والمتوسط والصغير لتبلغ 270 مصنفا.
وفاته:
بقي طيلة حياته في عمل متواصل يقيم ويرحل ويسمع ويسمع ويطالع ويصنف حتى ارهق جسمه وأوهاه وضعف بصره ورحم من قال لا يستطاع العلم براحة الجسد حتى عُميَ قبل وفاته, و مات ليلة الاثنين ثالث ذي القعدة سنة 748هـ بدمشق ودُفن بالباب الصغير وصلى عليه جملة من العلماء منهم تلميذه السبكي ورثاه غير واحد منهم قوله:
أشمس الدين غابت و كل شمس تغيب وزال عن ظل فضلك
وكم؟ أنت و قال شخص وما ورّخت قط وفاة مثلك
وكان عمره خمسة وسبعين عاما قضاها في طلب العلم وتعليمه.