الحافظ ابن عساكر
محدث الشام ومؤرخها الكبير
هو الشيخ الإمام ناصر السنة وخادمها وقامع جند الشيطان بعساكر اجتهاده وهادمها، إمام أهل الحديث في زمانه وختام الجهابذه الحفاظ، الحافظ الثقة المتقن الديّن الخيّر، إمام المحدثين في وقته، الفقيه الأديب السَنيّ، محدث الشام ومؤرخها الكبير ابن عساكر.
- عصره:
ولد الحافظ ابن عساكر رحمه الله في نهاية القرن الخامس الهجري، وعاش بقية حياته في القرن السادس الهجري، وعاصر ثلاثة دول حكمت دمشق الدولة السلجوقية والدولة الأتابكية النورية ثم الدولة الصلاحية الأيوبية، وكانت دمشق قد اصيبت في كارثة عظيمة وما أكثر ما أصاب دمشق من كوارث لكنها صمدت، حيث انتشر وباء الطاعون فلم يبقى من أهلها سوى 3000 إنسان بعد أن كانا فيها 500,000 الف إنسان، وانتشر فيها الغلا فكان فيها 240 خبازًا فلم يبقى سوى اثنين والدار التي تساوي 3000 دينار يُنادي عليها بعشرة دنانير فلا يشتريها أحد.
وكان نور الدين محمود بن زنكي قد دخل دمشق وأقام العدل فيها في 549هـ، ولقب بالملك العادل حتى وفاته عام 569 هـ، ودفن فيها، وعده المؤرخون سادس الخلفاء الراشدين بعد عمر بن عبد العزيز، وكان من أحسن حكام المسلمين سيرة، زاهدا ورعًا مجاهدًا حارب الصليبين اكثر من 20 سنة، وبنى المدارس في جميع بلاد الشام وأوقف لها الصداقات وبنا البيماريستان والخوانق (زوايا العبادة) والأسواق وبنى دار العدل وكان يجلس فيها مع القاضي يستمعو للمظلومين، وكان يقوم الليل ويكرم أهل الصلاح والتقوى، وقرّب منه العلماء، وقد عاصر الحافظ ابن عساكر نور الدين وصحبه مدة 20 سنة.
وكان صلاح الدين الذي وُلد عام 532 هـ بقلعة تكريت في الموصل ثم انتقل مع والده بأمر عماد الدين زنكي الى الشام وأُعطي إمارة بعلبك ثم أخذه عمه أسد الدين إلى مصر وجعله مقدم عسكره وتولى قيادة الجيش من بعده، ثم لما توفي نور الدين كان ولده إسماعيل لا يصلح للحكم، دخل صلاح الدين دمشق عام 570 هـ، وبدأ عهد دولته الصلاحية الأيوبية، وهناك التقى بالحافظ ابن عساكر وقرّبه منه، وكان يعظه ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر حتى توفي ابن عساكر، وصلّى صلاح الدين عليه بنفسه وشارك بدفنه وذلك عام 571 هـ.
وعليه فقد كات دمشق زمن الحافظ ابن عساكر حاضرة العلم والعلماء وأثمرت عناية نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي بمساجدها ومدارسها أعظم الأثر وغاية الإثمار، فعمرت المساجد وأُوقفت لها الأوقاف وانتشرت دور القرآن والحديث الشريف والمدارس المميزة، فكانت اكثر من 20 مدرسة مثل المدرسة الغزالية والنورية والصلاحية، وكان فيها ست خانقات يقصدها طلبة العلم ويعتكفون فيها للعبادة وتلقي العلوم الشرعية، وبيمارستانان وكانا مجانيان ويأُمه كبارُ الأطباء والصيادله وكان مستشفى ومدرسة للطب فهذه نبذة عن العصر الذي عاش فيه عالمنا الجليل.
- اسمه:
هو علي بن الحسن بن هبة الله الدمشقي المولد والنشأة والدار والوفاء الشافعي، الحافظ المؤرخ لقبه ثقة الدين كنيته أبو القاسم شهرته ابن عساكر وليس في أجداده احد اسمه عساكر ولعله من قبل الأمهات، ولادته في شهر المحرم سنة 499 هـ، وكان أبوه قد رأى في منامه أنه يقال له يولد لك مولود يحيى الله به السُّنة، وقيل لأمه في المنام وهي حامل به ستلدين غلامًا يكون له شأن، والده الحسن بن هبة الله صحب الفقهاء وأخذ عنهم وسمعه منهم صحيح البخاري وغيره ولد سنة 460 هـ ومات 519 هـ، والدته أم القاسم بنت يحيى بن علي القرشي، وبيت القرشي بيت عُرف بالعلم وصفه المؤرخون بيت كبير صاحب فنون وذكاء وفقه وآداب وخطب ونظم.
جده لأمه يحيى بن علي أبو الفضل قاضي دمشق صحب العلماء وأخذ عنهم وكان عالما فقيها ثقة، حَسن المحاضرة، حلو المفاكهه، فصيح اللسان، انتفع إبن عساكر بصحبته وأخذ عنه النحو والعربية.
خاله لابن عساكر خالان مشهوران:
- الأول: القاضي أبو المعالي المنتجب محمد بن القاضي أبي الفضل يحيى بن علي سمع من علماء دمشق وأخذ عنهم وتولى القضاء إلى أن مات كان محمودًا حسن السيرة شفوق على المسلمين وقورًا حسن المنظر متوددًا كان يلقب بالقاضي المنتجب هو والد القاضي الزكي توفي سنة 477 هـ.
- الثاني: القاضي أبو المكارم سلطان بن يحيى بن علي، أخذ عن علماء دمشق وبغداد توفي سنة 530 هـ.
أخواه:
- الأول والأكبر: صائن الدين هبة الله بن الحسن بن هبة الله الشيخ الإمام العالم الفقيه المفتي المحدّث، ولد عام 488 هـ، وتفقّه على يد علماء دمشق وبغداد والكوفة ومكة وكان إماما ثقة ثبتًا دينًا ورعًا وحدّث عنه خلق كثير توفي 536 هـ.
- الثاني: أبو عبد الله محمد بن الحسن بن هبة الله كان قاضيا وله ستة أولاد اشتهروا بالعلم والحديث والفقه، وكانت زوجته أسماء القرشيه ذات علم وفضل، سمع منها أولادها وأخذوا عنها العلم.
أخته:
- تزوجها محمد بن علي السلمي، وبيت السلمي بيت علم وجاه، وكان لها ابنان اخذوا عن خالهم ابن عساكر.
أسرته:
- تزوج ابن عساكر بامرأة صالحة عريقة النسب من بيت مشهور بالعلم، انجبت له عدة أولاد، وأخذوا عنها العلم (سمع منها أولادها في دارها).
أولاده:
- الحافظ قاسم وريث أبيه وراوي علمه ودرّس في الجامع الأموي ودار الحديث النورية بدمشق، ونشر كتب والده ورواها، أبو الفتح الحسن سمع من والده ومن عمه صائن الدين، ابنته أم الخير وأخذت عن والدها مع أخواتها.
احفاده:
- للقاسم ولدان:
الأول: سَمِيّ جدة علي، عماد الدين، عُني بالحديث، وكان آخر من رحل إلى خُراسان من المحدّثين، وكان ذكيا فاضلا حافظًا مجتهدًا في طلب العلم وخلّف ثلاثة أولاد القاسم، وأبو حامد الحسين، وفاطمة أم العرب وكلهم أهل العلم وأصحاب إجازات.
الثاني: الحسين بن القاسم وله ابن المشهور بدر الدين، صاحب رواية وعلم وكان القاسم ابن الحافظ ابن عساكر إماما محدثًا ثقة، حسن المعرفة، كريم النفس، ظريفًا، كثير المزاح، أخذ عن والده وكتب له وألف ودرّس وحدث عنه كثيرون، وتوفي سنة 600 هـ، ودُفن قرب والده عند باب الصغير.
- طلبه للعلم:
عاش ابن عساكر في بيت شرف وسؤود وتقدم، فوالده كان تقيا صالحا محبًا للعلم والعلماء مجالسا لهم وتمنى من الله أن يرزقه أبناء صالحين ياخذوا العلم وينشروه، وكانت زوجته تشاركه تلك الرغبة، وهي الصالحة بنت العلم والعلماء، وكانت أسرته من جدة لأمه وأخواله أهل علم وقضاء، فتهيأت لابن عساكر أسباب النبوغ منذ صغره وأخذ عنهم وعن أخيه وأبيه وجده وأخواله وروى عنهم، وكلهم رأى نبوغه وعلّقوا عليه الأماني كما قال له احد أشياخه: (إني لأرجو أن يحيى بك الله هذه الأمة)، وكان في عمر ست سنوات حين سمع الكثير من الكتب واخذ عن علماء دمشق وحضر مجالسهم وتشوق للرحلة في طلب العلم كما رأى من خاله وأخيه.
والرحلة في طلب العلم سنة عند المحدثين فعلها الصحابه الكرام وأخذها عنهم التابعون وجدّوا عليها وضحوا لأجلها (يحيى بن معين انفق ألف ألف درهم) و(خمسين ألف درهم) فيلقى العلماء ويأخذ عنهم.
رحلته في طلب العلم كانت رحلته الأولى حين أراد الحج سنة ٥٢١ هـ، حيث أخذ عن علماء مكة، وبغداد، والكوفة، وكان قد بدأ ببغداد عام 520 هـ، وزار في طريق الحج كلاً من أربعة قرى في الطريق، والمدينة المنورة، وأخذ عن علمائها، ثم رحل إلى خُراسان وتأخرت رحلته حتى اذنت له أمه وما اذنت له قبل ذلك، وكان يريد لقاء الإمام الفُراوي صاحب الفضل الكبير والعلم الغزير والإسناد العالي، كان يُقال فيه الف راوي، وكان خروجه من دمشق عام 529 هـ، وزار في طريقه اكثر من 50 مدينة وقرية مثبتًا رحلته والشيوخ الذين التقى بهم وأخذ عنهم ليكون مجموع ما نزل به من بلدان وقرى ما يزيد على 100 بلد او قرية وزاد عدد الشيوخ الذين التقى بهم وأخذ عنهم عن 1621 شيخ وشيخة منهم بضع وثمانون شيخة، وإن دل ذلك على شيء فيدلنا على حبه للعلم واحترامه للشيوخ وأدبه معهم وانعكاس ذلك على موروثه العلمي وشخصيته، وحكى شيخه الفُراوي إنه لما قدم ابن عساكر وقرأ عليّ ثلاثة ايام فاكثر وأضجرني وأليت على نفسي أن أُغلق بابي، فلما أصبحنا قدم علي شخص فقال: أنا رسول الله إليك، قلت: مرحبا بك، فقال لي في النوم امض إلى الفُراوي وقل له قدم بلدكم رجل شامي اسمر اللون يطلب حديثي فلا تملُّ منه، وقالوا: والله ما كان الفُراوي يقوم حتى يقوم الحافظ.
ومن أخلاقه تواضعه وعدم حبه للظهور والحياة ولم يروِ حتى قاله له شيوخه وألحو عليه وقالوا: من أحق بهذا منك، وكان ورعًا عابدًا يصلي في الصف الأول ويعتكف شهر رمضان و10 ذي الحجة، ويختم القرآن في كل جمعه، وفي رمضان كل يوم، ويحيي ليلة النصف من شعبان والعيدين، بارا بوالديه وشيوخه.
وكان قد عاش بعد سقوط القدس بيد الصليبيين حيث قتلوا ما يزيد على 70,000 ألف، وكانت أشلاء المسلمين في الشوارع وبلغ دماء القتلى الركب، وعكس أثرها نشط سوق الجهاد وأوقف العلماء والخطباء أنفسهم على استنهاض همم الأمة، ولذلك لما لمع نجم السلطان نور الدين ومن بعده صلاح الدين وقف العلماء معهم، وصحب ابن عساكر نور الدين 20 سنة ينصحه ويعظهُ، وهو الذي بنى له مدرسة الحديث النورية ليتفرغ للدراسة والمطالعة، ثم كان لنور الدين الفضل في حقه على كتابه مؤلفه الكبير (تاريخ دمشق)، وقد أثبتت ذلك في مقدمة كتابه انه استجاب لطلب السلطان نور الدين، وكان عمر ابن عساكر 50 سنة وكأنه قد كتب اكثر من 177 مؤلفًا منهم ما يقع في جزء واحد ومنهم ثلاثة، ومنهم سبعة، ومنهم تسعة عشر، وواحد وثلاثين، وثمانية وأربعون، على ان مؤلفاته واعظمها وأشهرها كتابه المشهور:
تاريخ دمشق -حماها الله- وذكر فضلها وتسمية من حلها من الأهائل واجتار بنواحيها ومن واريديها وأهلها، ويقع في 58 مجلد كل مجلد 200 ورقة أي قرابة 12000 ورقة، وكان قد كتبه وأنهاه عام 559 هـ، ثم بدأ إسماعه للعامة وله عدة نسخ مخطوطة في دمشق والمغرب والأزهر والهند وكامبردج وأُعيدت طباعته وتحقيقه.
- وفاته:
وكانت وفاته في دمشق ليلة الأحد الحادي عشر من رجب سنة 571 هـ، ودفُن بباب الصغير وصلى عليه الناصر صلاح الدين، ونزل غيث السماء سُحًا كأن السماء بكت عليه، ودُفن هناك قرب قبر سيدنا معاوية بن أبي سفيان.
وقالوا كثيرا في رسائل كما في مطلع قصيدة أي ركن وهي من العلماء أن يجمع هوى من العلماء إن رزق الإسلام بالحافظ العالم أمسى من أعظم الأرزاق، وكان ذلك قبل 869 سنة من الآن وكان عمره 72 سنة وستة عشر شهر وعشرة أيام.