الذّكر
بسم الله الرّحمن الرّجيم
الحمد لله الّذي أذن لنا بذكره، والصّلاة والسّلام على من علّمنا كيف نذكر الله ونعرف قدر ذكره وعلى آله وأصحابه من ساروا على سنّته ونهجه وبعد،
ندخل اليوم مسجد العبادات الكبير لنتعرّف على العبادة الّتي شرّعت كلّ العبادات لتحقيقها وهي الذّكر، فالصّلاة وهي أعظم أركان الإسلام وأوّلها شرّعت لتحقيق الذّكر { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } والصّلاة كلّها ذكر: القراءة ذكر، والرّكوع ذكر والسّجود ذكر والتّشهّد ذكر، وبعد الصّلاة:{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ }، وخصّ صلاة الجمعة بالذّكر العظيم لشرفها وسموّ مكانتها وكبير فضلها، فقال بعد الحديث عنها:{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وبعد الحجّ { فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً }، لأنّ عبادة الذّكر من أسهل العبادات، لا تكلّف جهداً ولا وقتاً ولا مالاً، ويستطيع العبد المسلم أن يؤدّيها في أيّ وقت وفي كلّ مكان، وهي عبادة يحبّها الله كثيراً ويثيب عليها ثواباً عظيماً، ويعطي عليها من الأجر ما لا يعطي على غيرها، وذكر الله عزّ وجلّ عبادة كلّ وقت كما هي عبادة كلّ مكان.
عبادة الذّكر، شروطها الإكثار، ولكن هذه العبادة لها شرط واحد، هو الإكثار منها، إذ لا ينفع معها القليل، ففي قيام اللّيل قد يكفي ولو ركعتان، أمّا عند الذّكر فلا بدّ من الإكثار منه. يقول الله تعالى :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيرًا* وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً }.
وقد دعا سيّدنا موسى عليه السّلام ربّه قائلا: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي*يفقهوا قولي*وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي*هَارُونَ أَخِي*اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي*كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً*وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً }، بالمقابل فإنّ الله تعالى عاب على المنافقين أنّهم { وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً }، أي أنّهم يذكرون الله ولكن قليلاً وفي أوقات محدودة، وليس هذا هو الذّكر الكثير الّذي يأمرنا به الله تعالى.
فضل الذّكر
قال تعالى: { فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ }، لهذا قال أحد الصّحابة: “أنا أعرف متى يذكرني ربّي عزّ وجلّ”، فَسُئِلَ: “متى ذلك ؟” فقال: “عندما أذكره سبحانه”.
ويقول تعالى: { الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ }، فمن فوائد ذكر الله تعالى اطمئنان القلب وهدوئه وسكينته، وفي هذا علاج للّذين يعانون قلقاً ويتألّمون ويعرضون عن الأطبّاء النفسيّين، فالله تعالى يقول: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ }، في ذكر الله علاج لكلّ المشاكل وتفريج لكلّ الكربات، وفي الغفلة عن الذّكر قلٌق وهمٌّ وغمٌّ وتسليطٌ للشّيطان على الإنسان، قال تعالى: { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ }، ويحذّر الله تعالى عباده المؤمنين من أن تلهيهم الدّنيا بما فيها عن ذكر الله فيقول سبحانه: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ }.
والنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يبيّن أنّ الحياة الحقيقيّة هي حياة القلب، ولا حياة للقلب إلّا بذكر الله تعالى، ولهذا يقول صلّى الله عليه وسلّم: ( مثل الّذي يذكر ربّه والّذي لا يذكره كمثل الحيّ والميتّ ) رواه البخاريّ، فهل ترضى أن تكون في عداد الموتى بغفلتك عن ذكر الله تعالى ؟
وقد جاء رجل إلى المعلّم الأعظم صلّى الله عليه وسلّم شاكياً يقول: “يا رسول الله، إنّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ (فيها عبادات وأخلاق ومعاملات)، فدلّني على عمل أتشبّث به، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( لا يزال لسانك رطباً بذكر الله )، وجاء آخر إلى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: “أيّ الاسلام أفضل ؟”، قال صلّى الله عليه وسلّم: ( أن تموت ولسانك رطبٌ بذكر الله )، ويقول صلّى الله عليه وسلّم: ( ألا أدلّكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخيرٌ لكم من إنفاق الذّهب والفضّة، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم ؟ )، فقال الصّحابة: “بلى يا رسول الله”، فقال صلّى الله عليه وسلّم: ( ذكر الله تعالى )، ويقول صلّى الله عليه وسلّم: ( لا يقعد قومٌ يذكرون الله عزّ وجلّ إلّا حفّتهم الملائكة وغشيتهم الرّحمة وتنزّلت عليهم السّكينة وذكرهم الله فيمن عنده )، ويقول الله عزّ وجلّ في حديث قدسيّ: ( أنا عند ظنّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه )، وخرج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه فوجدهم جالسين فقال: ( ما أجلسكم؟ )، قالوا: “جلسنا نذكر الله يا رسول الله”، قال: ( آلله ما أجلسكم إلا هذا ؟ )، قالوا: “آالله ما أجلسنا إلّا هذا”، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ( إنّي لم أسألكم تهمة لكم، ولكن بلغني أنّ الله يباهي بكم ملائكته )، وقال صلّى الله عليه وسلّم: ( سبق المفرّدون )، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال:” الذاكرون الله كثيرا والذاكرات”.
جعلنا الله من الذّاكرين كثيراً ومن السّابقين المفرّدين كما يحبّ ربّنا ويرضى، والحمد لله ربّ العالمين.