جلال الدين السيوطي
بسم الله الرحمن الرحيم
معلَم العلوم الإسلامية، وارث علوم الأنبياء، فريد دهره ووحيد عصره، إمام المتحدّثين في زمانه، نادرة عصره، بقية السلف وعمدة الخلف، فخر المتأخرين، علم أعلام الدين الأستاذ الجليل الكبير الإمام الحافظ جلال الدين السيوطي.
الذي لا يوجد على ظهر البسيطة من له من النسخ الخطية المبثوثة في خزائن العلم أكثر منه ولا من ألف بعدد كتبه مثله، بل إن ما أورده من كتب ومصادر ومراجع ميّز وجودها الآن فصارت كتبه المرجع الوحيد لها، وهو العالم الموسوعي الذي كتب في القرآن الكريم والحديث الشريف، والفقه وأصوله واللغة والنحو وأصوله وعلم الأصوات والأدب والبلاغة والتاريخ والتراجم والأنساب والألقاب والسيرة الذاتية والمنطق والكلام.
وقد عاش عالمنا الجليل في عصر المماليك فعايش 13 سلطانًا من المماليك وعاصر 5 خلفاء صوريين.
اسمه عبد الرحمن وكان والده يسمى أبا بكر فسمّاه بكرًا ليكون عبد الرحمن بن أبي بكر وكنّاه أبو الفضل ولقّبه جلال الدين، ولد في مصر في غرة رجب سنة 849 هـ الموافق 3/10/1445م.
أما والده فكان علّامة أصوليًا، نحويًا، بارعًا اشتغل بالعلم وجالس العلماء وأخذ منهم حتى يرع واشتغل بالتدريس وأخذ عنه خلق كثير وكان جدّه من المشايخ وأصحاب الأصول، وله قصة تروى أنه أراد الحج في أول حياته فلبّى فسمع من يقول له لا لبيك ولا سعديك، فرجع وتاب واستقام وأقبل على العبادة ثم أراد الحج فأحرم وقال لبيك اللهم لبيك فسمع لبيك وسعديك.
وكان من عائلة عُرفت بالصلاح والتقوى ولم يعش له من إخوته وأولاده أحد.
رحل في طلب العلم الرحلة الأولى كانت سنة 869 هـ، وكانت لأداء فريضة الحج واجتمع فيها بالكثير من العلماء والمشايخ.
ورحلة ثانية داخل مصر عام 870 هـ، التقى فيها علماء مصر وكبار علمائها وقد جمع أسماء وتراجم وسير من لقيهم من العلماء والمشايخ وأخذ عنهم وكان مجموع من لقيهم 600 شيخ كتب عن 195 شيخ منهم مفصلًا من الرجال وأخذ عند 42 شيخة من النساء.
وبدأت مسيرته العلمية بحفظ القرآن الكريم وهو دون الثماني سنين ثم حفظ عمدة الأحكام والمنهاج للنووي وألفية ابن مالك والمنهاج للبيضاوي حتى رُزق التبحّر في سبعة علوم لم يكن يجاريه أحد فيها أحد في الدنيا كلها: (التفسير، الحديث، الفقه، النحو، البيان، البديع)، ودونها علوم أصول الفقه، والجدل، والتصريف، والفرائض، والإنشاء، والقراءات والحساب.
ولما قال له أحد الأقران: “نحن سبقناك للاشتغال بالعلم على المشايخ وأنت تأخذ العلم بقوة الذكاء من الكتب”.
فردّ: “العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده”.
ورحم الله من قال: “إنما الفتح بالفتح” أي يأتي الفتوح من فتح صفحات الكتب.
وقد أكرمه الله بجملة صفات شخصية ونفسية منها:
حب الخير والعمل الصالح، حسن الاعتقاد بأهل الصلاح، كثرة التأني في الأمور، وكان زاهدًا في الدنيا غير منكب عليها، ويرد على مخالفيه بالحجة والبرهان.
وكان مما سبق إليه دعوته لفتح باب الإجتهاد، وأنه لا يُغلق رغم كونه شافعي المذهب، لكنه احتج أنه لا بدّ في كل عصر من وجود مجتهد وأراد بذلك أن يبث روح الإجتهاد في جسد الأمه الإسلامية لمن أمتلك أدواتها حقًا، وقد رجا أن يكون مجدد القرن العاشر لامتلاكه شروطه فعلًا.
وقد ألف في القرآن قرابة 35 مصَنفًا أشهرها تفسير الجلالين، وأذ في الحديث عن 195 شيخ وألف 304 كتاب في هذا المضمار وكان يحفظ 200 ألف حديث وقيل 300 ألف.
أما في الفقه فقد تصدّر للفتية وعمره 15 سنة وألف فيه 140 مصنفًا وبلغت آثاره في اللغة 70 مؤلفًا جمعها من 171 مصدرًا وقيل 278 مصدرًا، إضافة لتأليفه في التاريخ والمنطق حتى كُتِب أسماء مؤلفاته في 85 صفحة لتبلغ في مجموعها 200 كتاب ومؤلف.
وقد روى عنه تلاميذه 48 تلميذًا، وكان قد اعتزل حين شعر أن علمه قد فاق الحاضرين وأورد أبيات للشافعي قال فيها:
أَأَنثُرُ دُرّاً بَينَ سارِحَةِ البَهمِ وَأَنظِمُ مَنثوراً لِراعِيَةِ الغَنَمِ
لَعَمري لَئِن ضُيِّعتُ في شَرِّ بَلدَة ٍ فَلَستُ مُضيعاً فيهِمُ غُرَرَ الكَلِم
لَئِن سَهَّلَ اللَهُ العَزيزُ بِلِطفِهِ وَصادَفتُ أَهلاً لِلعُلومِ وَلِلحِكَم
بَثَثتُ مُفيداً وَاِستَفَدتُ وِدادَهُم وَإِلّا فَمَكنونٌ لَدَيَّ وَمُكتَتِم
وَمَن مَنَحَ الجُهّالَ عِلماً أَضاعَهُ وَمَن مَنَعَ المُستَوجِبينَ فَقَد ظَلَم
وأقام في بيته على النيل في منطقة تسمى الروضة، ومرض سبعة أيام ثم توفي ليلة الجمعة 19 جمادى الأولى سنة 91ِ هـ، وعمره 61 سنة وعشر أشهر و18 يومًا وكان يقرأ يس، وصلّى عليه خلفه كثير عقب صلاة الجمعة وتكررت الصلاة وصُليت عليه صلاة الغائب في دمشق.
رحمه الله ونفع به وجمعنا معه.