خلق الإيثار
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على إمام الكاملين وقدوة الورى إلى يوم الدين وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد،
فندخل ليوم مدرسة الأخلاق الأساسية ، ونحن في شهر رمضان المبارك لنتعرّف على خلق يتجلى كثيرًا في هذا الشهر الفضيل ، بل إن عبادات رمضان ومشاعر رمضان تتجه إليه فطرة ولعل ذلك هدف من أهداف عبادة الصيام ودوره في تزكية المؤمن وتهذيب أخلاقه.
خلق اليوم تسمى الإيثار . وهو خلق يكاد تندثر عند فئة كبيرة جدا من المسلمين .. بالمقابل هو خلق ليس له وجود عند الغرب لذلك لو أردت أن تترجمه الى لغة أخرى لن تستطيع.. أي أن الكلمة ليس لها مرادف في الانجليزية ولا في الفرنسية.. ليس فقط خلق الايثار بل هناك أخلاق أخرى.. فتجد كلمة خجول.. وهي لا تعطي معنى الحياء أبدا، وتجد ترجمة خلق التواضع بمعنى الخضوع والذلة وهما لا يعطيان معنى التواضع. هذا الخلق لن تجده إلا في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم.
فالايثار هو: أن تفضل أخاك على نفسك، (حظ من حظوظ الدنيا تتركه لأخيك فيستمتع هو به وتفقده أنت). وحينما نقول: فلان آثر فلان.. أيّ فضّله على نفسه رغبة في الآخرة.
وإليك نماذج للتوضيح ، ففي المدينة المنوّرة حيث هي شديدة البرودة ليلا، وفي ليلة من ليالي الشتاء القارس تأتي امرأة من الأنصار ببردة (عباءة) من قطيفة وجاءت بها الى النبي صلى الله عليه وسلم تعطيها إياه فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم.. ولبسها لاحتياجه لها في هذا الجو الشديد البرودة، فخرج بها النبي صلى الله عليه وسلم لأول مرة على أصحابه، فنظر اليه رجل من الأنصار، وقال: ما أحسن هذه العباءة اكسنيها يا رسول الله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “نعم” فإذا هو يخلعها في الحال.. فنظر الصحابة للرجل الانصاري (وكان لسان حالهم يقول له: ما هذا الذي فعلته؟ إن النبي يحتاجها) فقال الرجل: ولكني أشد احتياجا لها من النبي صلى الله عليه وسلم إني أريد أن أجعلها في كفني حين أموت.
وحينما فتحت مكة وفتحت خيبر وفتحت الطائف كثر المال وجاءت الغنائم، وكان نصيب من هذه الغنائم غنم بين جبلين، فنظر أعرابي الى الغنم، وقال: ما أكثر هذه الغنم، فقال له النبي:” أتعجبك؟” قال: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم:”هي لك”، قال: يا محمد أتصدقني القول، قال صلى الله عليه وسلم:” هي لك خذها إن شئت” فقام الرجل يجري الى الغنم ويلتفت حوله.. فأخذها وعاد بها الى قومه يقول: يا قوم أسلموا لقد جئتكم من عند خير الناس، إن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر أبدا.
شعار الايثار
وهو شعار وضعه النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسلم، فاجعله من الآن شعارك.
يقول صلى الله عليه وسلم:” لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه”
ومن نماذج الإيثار الكثيرة التي قدّمها الأصحاب الكرام وكانوا بحق أساتذتها
حينما جاء مال كثير من البحرين فقال النبي صلى الله عليه وسلم:” هذا للأنصار وحدهم” فجاء الأنصار، وقالوا: لا نأخذها يا رسول الله حتى تقسمها بيننا وبين اخواننا، فجاء المهاجرون الى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله ما رأينا قوما أبذل من كثير ولا أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهم (يعنون الأنصار) لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنإ حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال:” لا ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم”.
و في يوم معركة اليرموك كانوا يضعون جرحى المسلمين في مكان قريب منهم، وكان من شدة المعركة أن نسوا الجرحى، وكان من ضمن الجرحى عكرمة ابن أبي جهل، وكان ابن عمه في السقيا، فيقول: بحثت عن ابن عمي عكرمة فوجدته في الجرحى يئن.. ويتألم، يكاد يموت من شدة العطش، وبجواره عشرة من الجرحى المسلمين فقلت: أسقيه، فأخذت الماء وجريت الى عكرمة وقلت: اشرب فقال لي: نعم. فأخذ الماء فبينما هو يشرب سمع أخاه الذي بجواره يقول: آه، ويريد أن يشرب، فقال: والله لا أشرب حتى يشرب أخي، فذهبوا اليه فحدث مع العشرة ذلك حتى وصلوا الى العاشر، فقال: لا والله لا أشرب حتى يشرب عكرمة، فعادوا الى عكرمة ، فإذا هو قد مات شهيدا…
وفي يوم من الأيام اشتاق عبدالله بن عمر للسمك.. وكان يحب السمك المشوي.. فبحثت زوجته زمنا حتى استطاعت أن تأتي بسمكة مشوية ووضعتها أمام عبدالله.. وإذا بمسكين بطرق الباب فقال عبدالله: أعطيه السمكة، فقالت زوجته: عندنا في البيت لحم، وطعام ولعل الرجل يستفيد باللحم قال: ولكني احب السمك!!. وفعلا أعطت السمكة للرجل المسكين ثم خرجت وراءه وقالت له: أشتريها منك بدرهم؟ قال المسكين: نعم. فاشترتها منه ودخلت البيت، ووضعت السمكة أمام عبدالله، وحينما همّ بأكل السمكة إذا بالمسكين بالباب، فقالت له: ماذا تريد؟ فقال عبدالله أعطيه السمكة، ثم حدث ما حدث سابقا واشترتها منه بدرهم ثان، وضعت السمكة أمام عبدالله فجاء المسكين للمرة الثالثة، قالت: أستحلفك بالله لا تعد. فقال عبدالله بن عمر:” أيما امرئ اشتهى شهوة (حلال) فردّ شهوته وآثره على نفسه غفر له”.
فليس عيبا أن تشتهي شهوة حلالا، وليس عيبا أن تحصل عليها، فعبدالله بن عمر يشتهي السمك، ومن المعروف أن المدينة ليست بلدة ساحلية.. أي أن العثور على سمك ليس سهلا..
وسبحان الله!! حينما وجد السمكة..!! آثر بها غيره مرة واثنين..
“ولكني أحب السمك”.. جملة لها معنى ومغزى. {لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون}
و بعدما استشهد سيدنا جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة ترك ثلاثة أطفال صغار، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” من يكفل أولاد جعفر” ( وكان الصحابة في ذلك الوقت فقراء وضعفاء) فخرج ثلاثة من الصحابة ينافسون لكفالة أولاد جعفر (بالرغم من فقرهم جميعا). وليس عجيبًا فجعفر بن أبي طالب نفعه الايثار حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم سماه: أبا المساكين.
يقول الامام الغزالي في كتابه “إحياء علوم الدين”
والايثار على ثلاثة منازل:
الأولى: أن تنزل غيرك منزلة الخادم فتعطيه مما يبقى منك.
الثانية: ان تنزل غيرك منزلة نفسك فكما تأخذ تعطيه.
الثالثة: أن تنزل غيرك فوق نفسك فتفضل حاجته على حاجتك.
أيّ المنازل الثلاثة تحب..؟
أسأل الله أن نكون جميعا من أصحاب المنزلة الثالثة.
وتذكر أن غاية الايثار أن تؤثر مرضاة الله على مرضاة الناس، وأن تؤثر رضا الله على رضا من سواه، وأن تؤثر رضا الله على هوى نفسك.
ومسك الختام كتب رجل صالح قبل موته رسالة لابنته يقول فيها:
“بنيّتي لم أعد أفزع من الموت، ولو جاءني اللحظة، لقد أخذت من الحياة كثيرا.
أقصد أعطيت كثيرا، أحيانا يا بنيّتي يصعب التفرقة بين الأخذ والعطاء؛ لأنهما عند المؤمن لهما مدلول واحد، في كل مرة أعطيت فيها أخذت منها؛ بل أخذت أكثر مما أعطيت”.
فما أعظم دين الإسلام وصلى الله وسلم على معلّم الإسلام والحمد لله رب العالمين.