خلق التّقوى
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المتّقين وعلى آله وأصحابه أئمّة الهدى والدّين وبعد،
فيقول الله تعالى عن العبادة وغاياتها:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }.
وقال في حقّ فريضة الصّيام وحكمة شهر رمضان:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
فجعل الله تعالى غاية العبادة عموماً وفريضة الصّوم خصوصاً تحقيق التّقوى عند المسلم.
فما هي التّقوى لغةً واصطلاحاً وما هي مدلولات هذه اللّفظة وما هي مراتب التّقوى كما وضعها العلماء والمربّون ؟
التّقوى لغة: هي جعل النّفس في وقاية ممّا يُخاف، وحفظها عمّا يؤذيها ويضرّها.
واصطلاحاً: حفظ النّفس عمّا يُؤثم، وذلك بترك المحظور.
وقد ذكرت مادّة التّقوى في القرآن الكريم (٢٥٨) مرّة بصيغ مختلفة، منها (٧٠) مرّة وردت بصيغة الأمر، وما ذلك إلّا لعظم شأنها ودقيق معناها.
وجاء في القرآن العزيز استخدام لفظة التّقوى في أكثر من استخدام ونسبة، فجاءت منسوبة إلى ذات الله عزّ وجلّ كما في قوله تعالى: { وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }، وقوله: { وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُم مُّلَاقُوهُ }
وإلى اليوم الآخر في مواضع كقوله تعالى:
(( يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يومًا ترجعون فيه إلى الله)) وقوله: { وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ }، وقوله: { وَاتَّقُوا يَوْماً لَّا تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً }، كما جاءت في مواضع منسوبة إلى النّار كقوله: { وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }، فالمراد بالجملة كما ذكرنا حفظ النّفس ممّا يؤذيها من غضب الله تعالى، أو هول يوم القيامة تبعاً لسوء الأعمال والتّقصير في الطّاعات، أو اتّقاء نار الله مصير المسيئين والمقصّرين والعياذ بالله.
من معاني التّقــوى:
- ترك الشّرك والكبائر والفواحش.
والشّرك نوعان: أكبر: بجعل إله مع الله، وأصغر: وهو الرّياء.
الكبائر، وهي كثيرة، ومنها: الإشراك، والعقوق، شهادة الزّور، قتل النّفس بغير الحقّ، السّحر، الرّبا، قذف المحصنات، اليمين الغموس، شتم الوالدين، قتل الولد، التّولّي يوم الزّحف.
الفواحش وهي ما عظم قبحه من الأقوال والأفعال مثل الزّنا واللّواط والقذف والكذب والمخدّرات.
- أداء ما افترض الله تعالى (من صلاة وصيام وزكاة وحجّ) وترك ما حرّم.
- أن يراك حيث أمرك ويفتقدك حيث نهاك.
- ترك الذّنوب والحذر منها كماشٍ في أرضٍ ذات شوك.
- مجانبة ما يبعدك عن حضرة الله.
- عمل بطاعة الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله، وترك معصية الله، على نور من الله، رجاء ثواب الله.
- أن تتّقي بقلبك من الغفلات وبنفسك من الشّهوات وبجوارحك من السّيّئات حينها تصل لربّ الأرض والسّماوات.
- أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر.
- محاسبة النّفس بشحٍّ وجور.
- ترك ما لا بأس فيه حذراً ممّا به بأس.
- أن تزيّن سرّك للحقّ كما تزيّن علانيّتك للخلق.
أمّا عن علاقة الصّيام بالتّقوى، فيعتبر الصّيام من أكبر أسباب تحقيق التّقوى في نفس المسلم، وبنفس الوقت ثمرة من ثماره وغايات أهدافه، ففي الصّيام يعيش المسلم حقيقة الامتثال لأوامر الله تعالى واجتناب نواهيه حيث يمتنع عن الطّعام والشّراب وسائر المفطرات طاعة لربّه وامتثالاً لأوامره فيتمتّع بلذّة العيش في عبادة متواصلة فيخرج بعبادته من محراب الصّلاة إلى محراب الحياة حين تصبح حياته كلّها عبادة، وينتقل الصّائم من جائرة التّصوّرات إلى دائرة الصّرفات والتّطوّرات.
كما يدرّب نفسه على مراقبة الله تعالى وترك أهواء نفسه فيرتقي بعبوديته في مراتب الإسلام والإيمان ليصل إلى مقام الإحسان فيعبد الله كأنه يراه كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لذا يستشعر المرء اسمين من أسماء الله جلّ وعلا وهما القريب والرّقيب، فيدرّب نفسه على مراقبة الله واستشعار وجوده ومعيّته فيستحي منه ويأمن بقربه، وبذلك يحقّق العبد المرتبة الأولى من مراتب التّقوى ألا وهي: التحرّز من المخالفات والتعرّض للموافقات والتّطهّر من السّيّئات بماء الحسنات والأعمال الصّالحات.
ومرتبة الخواصّ وهي: المجانبة عن الشّهوات بملازمة الرّياضات والتّحفّظ عن الفترات بمراقبة الخطرات والاحتراز عن الوقفات بترقّب المشاهدات.
ومرتبة خواصّ الخواصّ: ويقصد بها الإعراض عن وفق هواه ببذل الرّوح لما يهواه والخروج عن حظوظ دنياه وعقباه برعاية حقوق مولاه والاتّقاء بالله عمّا سواه حينئذٍ يكون اتّقاه حقّ تقواه.
ويتدرّب المسّلم كذلك على تضييق مجاري الشّيطان بالجوع، والإكثار من الأعمال الصّالحة، وهي ما سنفيض بالحديث فيه إن شاء الله تعالى في زيارات قادمة في هذا الشّهر الفضيل .