عثمان بن عفّان
- اسمه ونسبه:
إنّه عثمان بن عفّان بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصيّ، يلتقي مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الجدّ السّادس.
أبوه عفّان توفّي في الجاهليّة قبل البعثة.
أمّه أروى بنت كريب بن ربيعة، أسلمت وعاشت في المدينة وبايعت الرّسول وتوفّيت في زمن خلافة ابنها عثمان.
جدّته أم حكيم بنت عبد المطّلب، عمّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
- صفته:
كان متوسّط الطّول، فلم يكن بالطّويل ولا بالقصير، كثيف الشّعر، كثّ الّلحية، من أحسن النّاس ثغراً، حسن الوجه، رقيق البشرة، مائل إلى السّمرة، ممتلئ السّاقين، طويل الذّراعين، كثير شعر الجسم.
- أخلاقه:
كان عثمان رضي الله عنه من أغنى إن لم يكن أثرى أغنياء قريش، ومع ذلك كان حسن الخلق، محبّب إلى قومه، حتّى أنّ الأمّ إذا أرادت أن تدعو لولدها بالخير قالت: (أحبّك الرّحمن حبّ قريش لعثمان)، فلحسن خلقه وكرم صفاته كان أحبّ النّاس لقريش.
- زوجاته:
أوّل زوجاته كانت رقيّة بنت الرّسول صلّى الله عليه وسلّم، تزوّجها قبل الهجرة بسنتين، وأنجبت له عبد الله، وأحبّها حبّاً شديداً، حتّى قيل أنّ العرب لم تعرف زوجين أحبّا بعضهما كرقيّة وعثمان رضي الله عنهما، غير أنّها توفّيت يوم بدر.
ثمّ تزوّج أختها أمّ كلثوم، فسمّي ذي النّورين، لأنّه تزوّج ابنتين من بنات الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم، وكانتا مخطوبتين لابني أبي لهب، ومن وسائل محاربة النّبيّ أن أمر أبو لهب ولديه بترك بنات الرّسول ففعلا، فظفر بهما عثمان.
وتوفّيت أمّ كلثوم سنة تسعة للهجرة، ومن محبّة النّبيّ له قال يوم وفاتها: (زوّجوا عثمان، ولو كان عندي ثالثة لزوّجته، وما زوّجته إلّا بوحي من الله).
ثم تزوّج ساخطة بنت غزوان، وفاطمة بنت الوليد وأمّ البنين بنت عيينة بن الحصين، وآخر زوجاته نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيّة، ثمّ أسلمت قبل أن يدخل بها عثمان.
- أولاده:
عبد الله الأكبر، عبد الله الأصغر، عمرو، خالد، الوليد، سعيد، وعبد الملك.
بناته: مريم، وأمّ سعيد، وعائشة، وأمّ عمرو، وأمّ البنين.
- أبرز مراحل حياته:
ولد عثمان بعد عام الفيل بست سنين، هاجر وعمره سبعة وأربعين، بويع الخلافة وعمره سبعين، وبقي فيها اثنا عشر عاماً، وتوفّى وعمره اثنين وثمانين، وكان استشهاده سنة خمس وثلاثين للهجرة.
- إسلامه:
كان عثمان تاجراً تشغله تجارته، بعد البعثة رأى رؤيا أنّ منادياً ينادي: (يا نيام استيقظوا، هذا محمّد خرج بمكّة)، فاستيقظ ولم يفهم من الرّؤيا شيئاً، فلمّا عرض عليه صديقه أبو بكر الإسلام، قال له: (أتعلم يا عثمان، أراك رجلاً حييّاً، وأرى أنّ هذه الصّفة لا تقودك إلّا إلى الإسلام)، فذهب به إلى النّبيّ، فعرض عليه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الإسلام، فلم يحتمل أن يقول: (أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله)، فكان الشّخص الثّاني الّذي يدخل في الإسلام.
- مواقفه:
لمّا علمت قريش بإسلامه حاولوا أذيّته، فهذا عمّه الحكم بن أبي العاص قام بربطه بالسّلاسل حتّى يعود عن دينه، فقال له: (والله لن أعود، وإن تركتني هكذا، فلمّا رأى صلابته وإصراره فكّ قيده وتركه)، ثمّ حاولت قريش التّضييق على تجارته فقاطعته، فلم يلين، فلمّا اشتدّ أذى قريش وأذن الرّسول بالهجرة إلى الحبشة، أخذ عثمان زوجته رقيّة وكلّ تجارته وهاجر، فكان أوّل من هاجر في سبيل الله، وقال فيه النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وسلّم: (عثمان بن عفّان أول مهاجر بأهله في سبيل الله بعد لوط عليه السّلام)، وعاد إلى مكّة قبل الهجرة بسنتين، وولد له عبد الله.
- بعد الهجرة:
بعد الهجرة إلى المدينة وازدياد عدد المسلمين فيها، وبدء مكائد اليهود وبالتّضييق على المسلمين، استغلّ يهوديّ ملكه لبئر رومة وبدأ يرفع الثّمن، فقال النّبيّ: (من يشتري بئر رومة، له بئر في الجنّة)، فساوم عثمان اليهوديّ على البئر، فطلب مبلغاً كبيراً جدّاً وهو (٥٠) ألف درهم، فعرض عليه عثمان أن يشتري نصف البئر باثني عشر ألف درهم، يسقي اليهودي يوماً وعثمان يوماً، فجعل عثمان يومه للمسلمين بالمجّان. فما عاد أحد يشتري من اليهوديّ في يومه، فجاء إلى عثمان وعرض عليه البئر بثمانية آلاف فوافق عثمان، وضمن بئراً في الجنّة.
- غزوة بدر:
فلمّا خيّر النّبيّ أصحابه بالخروج إلى عير قريش، همّ عثمان بالخروج، لولا مرض زوجته رقيّة، فبقي قربها حتّى توفّت ساعة نصر بدر.
ومع أنّه لم يشارك، إلّا أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرض له سهماً من الغنائم، وبكى عثمان على زوجته كثيراً، حتّى رقّ له النّبيّ، وعرض عليه تزويجه أمّ كلثوم، فوافق.
- صلح الحديبية:
لمّا أراد الرّسول يوم الحديبية إرسال رسول إلى قريش يفاوضهم ويخبرهم أنّه لا يريد الحرب، أرسل في ذلك عثمان. ولمّا كان يحدّثهم نظر إلى الكعبة، فقال له أبو سفيان: (إن شئت أن تطوف طف)، فقال: (ما كان لي أن أطوف بالبيت) لأنّ مهمّته مانت التّفاوض فقط. وكان النّبيّ يعلم ذلك، فقال: (والله لو بقي في مكّة كذا وكذا من السّنين لن يطوف بالبيت، حتّى أطوف أنا). ولمّا شاع خبر موته، طلب النّبيّ من أصحابه المبايعة على الموت للانتصار لدمّ عثمان، فبايعوا النّبيّ، ووضع النّبيّ يده الثّانية وقال: (هذه عن عثمان)، فنزل قوله: { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشّجرة }.
- غزوة تبوك:
لمّا كانت غزوة تبوك في الحرّ الشّديد، وقبل نضوج الثّمار وبيع المحاصيل، وكان جيش المسلمين ضخماً، زهاء ثلاثين ألفاً، ويحتاجون طعاماً وشراباً ودوابّاً وأسلحة.
سمّيت تلك الغزوة بغزوة العسرة، وبرزت مواقف الصّحابة العظيمة، فهذا أبو بكر يأتي بماله كلّه، وهذا عمر يأتي بشطر ماله، والنّبيّ يقف على المنبر ويقول: (من يجهّز جيش العسرة وله الجنّة ؟)، فوقف عثمان وقال: (عليّ مئة بعير بأحلاسها)، فقال النّبيّ: (جزاك الله خيراً، اللّهم ارض عن عثمان واغفر له)، ثمّ نزل النّبيّ عن المنبر درجة، فقال عثمان: (عليّ ثلاثمائة بعير بأقطابها وأحلاسها)، فدعا له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال: (ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم)، فلمّا سمع ذلك قال عثمان: (يا رسول الله تسعمئة وخمسون بعيراً بأقطابها وأحلاسها، وخمسون فرساً، وسبعمئة أوقية من الذهب، وعشرة آلاف دينار)، فأخذ النّبيّ يقلّب كفّيه ويقول: (اللّهم اغفر لعثمان ما قدّم وأخّر).
- مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
لمّا جلس النّبي صلّى الله عليه وسلّم يوماً في بئر أريس، وجعل أبو موسى الأشعريّ بوّاباً لرسول الله، وجاء أبو بكر يستأذن الدّخول، فتبسّم الرّسول وقال لأبي موسى: (ائذن له، وبشّره بالجنّة)، فبشّره، فدخل أبو بكر وجلس بجوار النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم على حافّة البئر ووضع قدميه في البئر. ثمّ جاء عمر يستأذن، فاستأذن له، فقال له:(ائذن له، وبشّره بالجنّة)، فدخل عمر، فجلس بجوار صاحبيه. ثمّ جاء عثمان، فاستأذن، فقال له: (ائذن له، وبشّره بالجنّة على بلوى تصيبه)، فقال: (الله المستعان)، فدخل وجلس في الجهة المقابلة وأدنى قدميه في البئر.
وقف النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوماً في الرّوضة، فقال: (أبو بكر في الجنّة، عمر في الجنّة،عثمان في الجنّة، عليّ في الجنّة، طلحة بن عبيد الله في الجنّة، الزّبير بن العوّام في الجنّة، عبد الرّحمن بن عوف في الجنّة، سعد بن أبي وقّاص في الجنّة، سعيد بن زيد في الجنّة).
ومرّة كان جالساً مع النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وقد وضع قدمه على قدم عثمان، إذ تنزّل الوحي على رسول الله، وكان عثمان يكتب الوحي، وعائشة تمسح العرق عن جبين النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والنّبيّ يقول: (اكتب يا عثيم)، تقول عائشة: (فوالله ما كان الله لينزل رجلاً بهذه المنزلة إلّا وكان غالياً على رسول الله).
وكان النّبيّ يوماً جالساً في بيته، وقد انكشف بعض ثوبه، فاستأذن أبو بكر،فأذن له ولم يغيّر النّبيّ في جلسته، ثمّ استأذن عمر، فدخل والنّبيّ على حاله، ثمّ استأذن عثمان، فقام النّبيّ واعتدل وأرخى ثوبه وجلس، فدخل عثمان فكلمّه ثمّ خرج، فسألت السّيّدة عائشة النّبيّ عن أمر ذلك، فقال: (يا عائشة إنّ عثمان رجل حييّ، أخشى أن يدخل عليّ هكذا فيراني فيستحي أن يكلّمني في الّذي يريد، ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة !).
- وفاة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
لمّا توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان من أشدّ النّاس حزناً عليه عثمان، حتّى كان النّاس يلقون عليه السّلام، فينظر إليهم لا يستطيع أن يردّه لحبّه للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو زوج ابنته.
- في مشهد أبي بكر:
كان رضي الله عنه أحد كبار المستشارين لأبي بكر، ولمّا أرسل أبو عبيدة والزّبير وسعد على رؤوس الحملات للقضاء على الردّة، أبقى عمر وعثمان وعليّ معه في المدينة.
وفي عهده أصاب المدينة قحط، وكاد النّاس يهلكون، فلمّا جاءت قافلة لعثمان من ألف راحلة تحمل الطّعام، وجاءه التّجّار يساومونه بدل العشر اثني عشر، فقال: (زادني غيركم)، قالوا: (فخمسة عشر)، قال: (زادني غيركم، أعطاني غيركم بدل العشرة عشرة)، قالوا: (والله ما تقدر)، قال: (الألف راحلة صدقة لأهل المدينة).
- في عهد عمر:
بقي عثمان مستشاراً في عهد عمر كما في عهد أبي بكر، ثمّ جعله عمر أحد السّتّة الّذين رشّحهم للخلافة من بعده، والّتي أفضت مشاوراتها الأخيرة إلى اختياره الخليفة الثّالت للمسلمين.
وكان أوّل ما قاله في خطبته الأولى بعد مبايعته: (إنّي قد حُمِّلت، وقد قبلت، ألا وإنّي متّبع ولست بمتدع، ألا وإنّ لكم عليّ بعد كتاب الله وسنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم اتّباع من كان من قبلي في ما اجتمعتم عليه).
- الحالة العامّة للأمّة الإسلاميّة في عهده:
١. القضاء الشّامل على دولة الفرس.
٢. دحر الرّوم من بلاد الشّام ومصر.
٣. القضاء على جميع أنواع الظّلم والتّميّز الاجتماعيّين.
٤. عاش المسلمون وغيرهم طمأنينة.
٥. زالت النّعرات العصبيّة والقبليّة.
٦. أصبحت الأمّة تعشق النّصر، حيث كانت الفتوحات في عهده ثلاث جبهات:
الجبهة الشّرقيّة:
فمن الكوفة تحرّكت الجيوش الفاتحة إلى الرّي (طهران) وأذربيجان وأرمينيا ومن البصرة توجّهوا لفتح خراسان وأفغانستان.
الجبهة الغربيّة:
بعد فتح الشّام ومصر انطلق معاوية رضي الله عنه لفتح عمّورية (جنوب أنقرة)، وعبد الله بن سعيد بن أبي السّرح لفتح تونس وطرابلس ليبيا، حتّى وصلوا الأندلس.
الأسطول البحريّ:
فلمّا كان عمر رفض ركوب البحر كقول عمرو بن العاص ركوبه: (كالدّود على العود، إن هدأ خفقت القلوب، وإن هاج طارت العقول، وإن الموقن فيه يصيبه الشّكّ)، فلمّا جاء عثمان أذن لمعاوية ركوب البحر على أن لا يرغم من المسلمين أحد، ففتحت قبرص. وكانت معركة ذات الصّواريّ الشّهيرة.
- ومن إنجازات عثمان:
نسخ القرآن الكريم، حيث نسخ من مصحف حفصة سبعة نسخ إلى كل مصر واحدة، وأمر بحرق كل نسخة تخالف هذه النّسخة.
توسعة المسجد النّبويّ، فاشترى دوراً، وزاد في المسجد، وحسّن أعمدته وسقفه، واستخدم الحجارة المنقوشة.
- كيف تمّ اختيار عثمان ؟ :
اجتمع أهل الشّورى الّذين عيّنهم عمر في بيت من البيوت يتشاورون، ووقف طلحة بوّاباً يمنع دخول النّاس عليهم، وانتهوا إلى أن فوّض ثلاثة منهم إلى الثّلاثة الآخرين. ففوّض الزبير الأمر إلى عليّ، وفوّض سعد إلى عبد الرّحمن بن عوف، وترك طلحة حقّه إلى عثمان. فقال عبد الرّحمن لعليّ: (أيّكما يبرأ من هذا الأمر، فنفوّض الأمر إليه ؟)، فسكت الشيخان، فقال عبد الرّحمن: (إنّي أترك حقّي من ذلك والله عليّ والإسلام أن أجتهد فأولّي أولاكما بالحقّ، فقالا: (نعم)). ثمّ خاطب كلّاً منهما بما فيه من الفضل، وأخذ عليه العهد والميثاق لئن ولّاه ليعدلنّ، ولئن ولّي عليه ليسمعنّ ويطيعنّ، فقالا: (نعم)، ثمّ تفرّقوا.
ثمّ نهض عبد الرّحمن بن عوف يستشير النّاس فيهما، فاستشار رؤوس النّاس وقادتهم جميعاً وأشتاتاً، مثنى وفرادى مجتمعين، سرّاً وجهراً، بل وانتهى إلى النّساء المخدّرات في حجبهنّ، ثمّ سأل الولدان في المكاتب، وسأل من يرد من الرّكبان والأعراب إلى المدينة طوال ثلاثة أيّام بلياليها، فلم يجد اثنين يختلفان في تقديم عثمان بن عفّان، إلّا ما ذكر من أنّ عمّار بن ياسر والمقداد أشارا بعليّ رضي الله عنه، ثمّ انضمّا إلى رأي عامّة النّاس.
ثمّ اجتمع عبد الرّحمن في اليوم الرّابع بعليّ وعثمان في دار ابن أخته المسور بن مخرمة، فقال: (إنّي سألت النّاس عنكما، فلم أجد أحداً يعدل بمكا أحداً)، ثمّ خرج بهم إلى المسجد، وبعث إلى وجود النّاس من الأنصار والمهاجرين فامتلأ المسجد حتّى غصّ بالنّاس.
ثمّ صعد عبد الرّحمن بن عوف منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتكلّم ودعا دعاءً طويلاً، ثمّ قال: (أيّها النّاس، إنّي سألتكم سرّاً وجهراً بأمانيكم، فلم أجدكم تعدلون بأحداً من هذين الرّجلين، إمّا عليّ، وإمّا عثمان)، فقم إليّ يا عليّ، فقام إليه، فأخذ عبد الرّحمن بيده، فقال: (هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنّة نبيّه، وفِعل أبي بكر وعمر ؟)، فقال: (اللّهمّ لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي)، فأرسل يده، وقال: (قم إليّ يا عثمان، فأخذه بيده، فأعاد عليه القول، فقال: (اللّهمّ نعم))، قال فرفع عبد الرّحمن رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، قائلاً: (اللّهمّ اسمع واشهد، اللّهمّ اسمع واشهد، اللّهمّ إنّي قد خلعت ما في رقبتي من ذلك وجعلته في رقبة عثمان).
فازدحم النّاس يبايعون عثمان تحت المنبر، وفيهم عليّ رضي الله عنه، وهكذا تمّت البيعة لعثمان بمشورة ومبايعة عامّة المسلمين، بعد التّشاور في اختيار الخليفة الأصلح، ورضي بذلك عامّة النّاس، ولم يشذّ عن ذلك أحد، وصار عثمان رضي الله عنه ثالث الخلفاء الرّاشدين من بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين.
٧. توقّف الفتوحات سبب حواجز طبيعيّة أو بشريّة، فكان من نتائج توقّفها تساؤل النّاس عن الغنائم القديمة وجعلوا يعدّونها من حقوقهم لمّا توقّفت الغنائم الّتي كانت تأتيهم.
٨. ظهور جيل جديد من الطّامحين، حيث وجد من أبناء الصّحابة من اعتبر نفسه جديراً بالحكم والإدارة.
٩. وجود طائفة موتورة من الحاقدين، حيث دخل في الإسلام منافقون لهم من الحقد والدّهاء ما ساعدهم لعمل الفتنة عرفوا بـ (أصحاب الشّرّ)،(نُزّاع القبائل)، (ذؤبان العرب)،(حثالة النّاس)،(آلة الشيطان) كما وصفهم معاصروهم،ويكفي منهم عبد الله بن سبأ اليهوديّ الّذي كان له أكبر الأثر في الفتنة.
وهكذا اجتمع على عثمان عدّة مآخذ، يمكن تصنفيها ضمن مجموعات:
- مواقف شخصيّة له قبل تولّيه الخلافة (مثل تغيّبه عن بعض الغزوات والمواقع).
- سياسته الإداريّة (مثل تولّيه أقاربه وطريقته في التّولية).
- اجتهادات انفرد بها (مثل نسخ القرآن وتوسعة المسجد).
- مواقف مع بعض الصّحابة (أبو ذر، عمّار، ابن مسعود).
هذه المآخذ الّتي وردت في تاريخ الطبريّ وغيره من كتب التّاريخ المرويّة عن طريق مجاهيل وإخبار بين ضعفاء (خاصّة الشّيعة) كانت من أعظم البلايا في سير الخلفاء والأمّة، ممّا يعتبر باطل سنداً ومتناً.
١٠. ظهور وسائل تهيّج النّاس، مثل إشاعة الأراجيف والمناظرات والمجاولات العامّة أمام النّاس، واستخدام تزوير الكتب بل واختلافها على ألسنة الصّحابة.
- أسباب الفتنة الّتي سبقت مقتل عثمان:
تولّى عثمان رضي الله عنه اثنتي عشرة سنة أميراً للمؤمنين، لم ينقم عليه أحداً من النّاس في صدرها، حتّى إذا كانت آخرها بدأت ملامح المجتمع الإسلاميّ تتغيّر، ممّا هيّأ لنمو الفتنة فيه، ومن هذه الأسباب بدأت آثار الابتعاد عن عصر النّبوّة تظهر، وتتجلّى في صور منها:
١. بدأ الرّخاء يظهر أثره على المجتمع، من تهالك على الدّنيا، وأثّر ذلك في تحريك الفتنة.
٢. طبيعة التّحوّل الاجتماعي بسبب التّوسّع المكانيّ والبشريّ، وانضمام ثقافات وأعراق، فلم يعد المجتمع همّ الصحابة الّذين تربّوا على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
٣. ظهور جيل جديد، لم ينالوا من التّربية الإسلاميّة ما ناله الصّحابة، بل ظهرت فيهم المطامع الفرديّة والعصبيّات الجاهليّة.
٤. استعداد المجتمع لقبول الشّائعات، حيث اختلط الإيمان بالشّهوة والشّبهة والهوى والفتنة.
وقد لخّص سيّدنا عليّ لأحد أتباعه عندما سأله: (ما بال المسلمين اختلفوا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر ؟)، قال: (لأنّ أبي بكر وعمر كانا واليين على مثلي، وأنا اليوم والٍ على مثلك !).
٥. اختلاف شخصيّة عثمان عن شخصيّة عمر، ممّا جعل سياسته تختلف.
٦. خروج كبار الصّحابة من المدينة، حيث لان معهم عثمان وسمح لهم بالخروج من المدينة، في حين كان عمر قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين بالخروج في البلدان، إلّا بإذن وأجل.
- إشكالات في عهد عثمان:
مرّت السنوات العشر من خلافة عثمان رضي الله عنه، وقد تميّزت بإنجازات هامّة ورخاء اقتصادي لم يشهد له مثيل. غير أنّ ذلك الحال لم يدم، بل عكّر صفوها إشكاليّات، افتعل منها الحاقدون مشاكل وقلاقل، ومنها:
١. الخلاف مع أبي ذرّ رضي الله عنه:
أشاع مبغضوا عثمان بن عفّان أنّه نفى أبا ذرّ رضي الله عنه إلى الرَّبّذة وذلك إثر خلاف بين معاوية وأبي ذر، جعله يجبره أوّلاً بالخروج من الشّام ثمّ نفاه عثمان إلى الرَّبَذة، وهي رواية باطلة، روّج لها أحمد أمين وغيره، والصّحيح أنّ أبا ذرّ رضي الله عنه نزل بالرَّبّذة باختياره، وذلك بسبب اجتهاد أبي ذرّ في فهم آية خالف فيها عموم الصّحابة، وأصرّ فيها على رأيه، ثمّ قرّر أن يعتزل.
وفي رواية البخاريّ، أنّ أبا ذرّ قال: (فذكرت ذلك لعثمان، فقال لي: إن شئت فتنحّيت فكنت قريباً، فذلك الّذي أنزلني هذا المنزل، ولو مرّوا عليّ جيشاً لسمعت وأطعت).
وفي رواية أن قال لعثمان رضي الله عنهما: (والله يا عثمان لو أمرتني أن آتيك من الشّام إلى المدينة ماشياً على رأسي لسمعت ذلك وأطعت، ولو أمرتني أن آتيك أن آتيك إلى المدينة حبواً على ركبتي لسمعت لك وأطعت).
٢. اتّهامه بحرق المصاحف:
وممّا أُلصق به من تهم أن يحرق المصاحف وذلك لمّا عزم توحيد رسمها وإحراق الغريب منها، لما في ذلك من وحدة من المسلمين ومصلحتهم، وكان ذلك بمشورة وموافقة كبار الصّحابة ومن ذلك شهادة عليّ بن أبي طالب أنّه قال: (والله لقد فعلها على مرأى منّا ومسمع، أي بموافقتهم وشورهم).
٣. اتّهام عثمان بإعطاء أقاربه من بيت المال:
اتّهم عثمان من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال، وإعطائه أكثر لأقاربه، وهي حملة دعائيّة حوتها كتب التّاريخ رغم كونها باطلة لم تثبت، بل هي مختلفة.
بل إنّ ما ثبت من إعطائه أقاربه يعدُّ من مناقبه رضي الله عنه لا مثالبه، عندما نعلم أنّه إنّما كان يعطيهم من ماله الخاص، وقد صرّح بذلك فقال: (وأمّا إعطاؤهم فإنّي إنّما أُعطيهم من مالي، ولا أستحلّ أموال المسلمين لنفسي، ولا لأحدٍ من النّاس، وقد كنت أُعطي العطية الكبيرة الرعيّة من طلب مالي في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر وعمر)، وفي هذا المعنى يقول ابن تيميّة مؤيّداً قول عثمان: (أين النّقل الثّابت ؟ هذا من الكذب البيّن).
٤. اتّهامه بتعيّن أقاربه على حساب بقيّة المسلمين:
لم يكن رضي الله عنه ليعيّن أحداً من أقاربه على حساب المسلمين ولو كان ذلك، لكان أولى النّاس بذلك ربيبه محمّد بن أبي حذيفة، بل كره استعماله.
وأمّا استعمال الأحداث (صغار السّنّ)، فكان لعثمان رضي الله عنه في رسول الله أسوة حسنة، وهو الّذي استعمل أسامة وعتّاب وغيره.
ولقد وقع كثير من الكتّاب المحدّثين بإطلاقهم أحكاماً لا تعتمد على التّحقيق، وذلك لاعتمادهم على مصادر غير موثوقة، تورّط أصحابها في روايات ضعيفة ورافضيّة، أمثال طه حسين، وراضي عبد الرّحيم وصبحي الصّالح ومولوي الحسين، وتوفيق اليوزبكي وسيّد قطب وغيرهم.
كما أنّ ولاته من أقاربه كانوا خمسة من أصل ستّة وعشرين والياً، بل لم يكونوا معاً في ذات الفترة، بل عزل واحداً وولّى واحداً بدلاً عنه.
أفكثير على بني أميّة ذلك العدد، علماً أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفسه كان يستعمل كثيراً بني أميّة، وسار على نهجه في ذلك أبو بكر وعمر رضوان الله عليهم جميعاً.
زمن التّهم أيضاً الابتداع في الدّين، فمن الأمور أنّه:
١. علا في المنبر، فمنبر رسول الله كان ثلاث درجات وكان الرّسول يقف على الثّالثة، فلمّا وقف أبو بكر وقف على الدّرجة الثّانية، ثمّ جاء عمر فوقف على الدّرجة الأولى، فلو وقف عثمان على الأرض لما رآه النّاس، فعلا الدّرجة الثّالثة الّتي وقف عليها رسول الله.
٢. أنّ عثمان سنّ الأذانين يوم الجمعة، لأنّ النّاس كثروا في عهده لتكون تنبّهاً على وقت الصّلاة ولا يتأخّروا عليها.
- دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:
في السّنوات الأخيرة من خلافة عثمان رضي الله عنه، بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلاميّ نتيجة عوامل كثيرة، ومن أخطر تلك العوامل دور اليهود والّذين جعلوا يتحيّنون فرصة الظّهور، مستغلّين عوامل الفتنة، ومتظاهرين بالإسلام واستعمال التقية، ومن هؤلاء: عبد الله بن سبأ الملقّب بابن السّوداء، والّذي يجب أن لا نبالغ في دوره كما فعل البعض، ولا نستهين به أيضاً بوصفه عاملاً من عوامل الفتنة، بل أبرزها إن لم يكن أخطرها، إذ أنّ أجواء الفتنة مهّدت له وعوامل أخرى ساعدته وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادّعاها، واخترعها من قبل نفسه، وافتعلتها يهوديّته الحاقدة، فجعل يروّجها لغاية ينشدها ألا وهي الدّسّ في المجتمع الإسلاميّ بغية النّيل من وحدته، وإذ كاء نار الفتنة بين أفراده ولعلّ خلاصة ما جاء به: أنّه أتى بمقدّمات صادقة، وبنى عليها مبادئ فاسدة، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبّس فيها على من حوله ممّن راق لهم قوله، فكان ممّا قال:
ـ عجب لمن يزعم أنّ عيسى يرجع، ويكذّب بأنّ محمّداً يرجع، وقد قال تعالى: { إنّ الّذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد }، فمحمّد أحقّ بالرّجوع.
ـ ادّعاء إثبات الوصاية لعليّ رضي الله عنه بقوله: (إنّه كان ألف نبي، ولكلّ نبيّ وصيّ، وكان عليّ وصيّ النّبيّ محمّد خاتم الأنبياء، وعليّ خاتم الأوصياء).
ـ ثمّ مهّد للخروج على الخليفة عثمان بقوله: (من أظلم ممّن لم يجز وصيّة رسول الله، ووثب على وصيّ رسول الله وتناول أمر الأمّة).
وممّا قال كما جاء في تاريخ الطّبريّ: (إنّ عثمان أخذها بغير حقّ، وهذا وصيّ رسول الله، فانهضوا في هذا الأمر، فحرّكوه وابدأوا بالطّعن على أمرائكم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر تستميلوا النّاس، وادعوهم إلى هذا الأمر).
وصادف هذا الكلام هوى في نفوس بعض القوم، فجعل يبثّ دعاته، وكاتب من كان استفسر في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السّرّ إلى ما عليه رأيهم، فأظهروا الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعون فيها عيوب وُلاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر ما يضعون، فيقرأ أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم حتّى تناولوا بذلك المدينة، فيقول أهل كل مصر: (إنّا لفي عافيةٍ ممّا ابتلى به هؤلاء).
وعليه يتّضح جليّاً الأسلوب الّذي اتّبعه ابن سبأ، فهو أراد الإيقاع بين اثنين من الصّحابة، ثمّ حرّك النّاس ـ خاصّة الكوفة ـ باسم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، فجعلوا يثورون لأصغر الحوادث على ولاتهم ونجح بذلك.
لأنّ القرّاء من الأعراب استهواهم الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر وأصحاب المطامع منهم هيّج نفوسهم بالشّائعات المفتراة على عثمان مثل تحيّزه في المال، وإغداقه على أقاربه وغير ذلك من الشّبه.
ثمّ أخذ يحضّ أتباعه على إرسال الكتب بأخبار سيّئة مصطنعة من مصرهم إلى بقيّة الأمصار، وهكذا يتخيّل النّاس في جميع الأمصار أنّ الحال بلغ من السّوء ما لا مزيد عليه، بل غشّهم بكتب ادّعى أنّها وردت من كبار الصّحابة حتّى إذا أتى هؤلاء الأعراب المدينة المنوّرة واجتمعوا بالصّحابة لم يجدوا منهم تشجيعاً، بل تبرّأوا ممّا نُسب إليهم من رسائل تؤلب النّاس على عثمان، ثمّ لمّا وجدوا عثمان مقدّراً، بل وناظرهم فيما نُسب إليه وردّ عليهم افتراءاتهم، قال أحدهم منصفاً وهو مالك بن الأشتر النخعي: (لعلّهُ مُكر به وبكم).
ويعتبر الذّهبيّ أنّ عبد الله بن سبأ هو المهيّج للفتنة بمصر وباذر بذور الشّقاق والنّقمة على الولاية ثمّ الإمام عثمان فيها.
ولم يكن ابن سبأ وحده، إنّما كان عمله ضمن شبكة متآمرين وأخطبوط من أساليب الخداع والاحتيال والمكر وتجنيد الأعراب والقرّاء وغيرهم.
إنّ المشاهير من المؤرّخين والعلماء من سلف الأمّة وخلفها يتّفقون على أنّ ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبيّئة ليلفت النّاس عن دينهم وطاعة إمامهم، ويوقع بينهم الفرقة والخلاف. فاجتمع إليه الغوغاء من النّاس فيما عرف بعدها بالطّائفة السّبئيّة الّتي كانت عاملاً من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل عثمان بن عفّان رضي الله عنه.
ويروي ابن كثير أنّ من أسباب تألّب الأحزاب على عثمان ظهور ابن سبأ وذهابه إلى مصر، وإذاعته بين النّاس كلاماً اخترعه من عند نفسه، فافتتن به بشر كثير من أهل مصر.
ويظهر أنّ خطط السّبئيّة كانت بارعة في توجيه دعايتها ونشر أفكارها والتّأثير بين الغوغاء والرّعاع من النّاس في عدد من الأمصار. وقد شعر عثمان رضي الله عنه بما يحاك في الأمصار، وأنّ الأمّة تمخض بشرّ، فقال: (والله إن رحى الفتنة دائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحرّكها).
وكان ممّا قاله في كتاب أرسله للأمصار: (أمّا بعد، فقد أمّرت عليكم من اخترتم وأعفيتم من سعيد، والله لأفرشنّ لكم عرضي، ولأبذلنّ لكم صبري ولاستصلحنّكم بجهدي، فلا تدعونني إلى شيء أحببتموه لا يُعص الله فيه إلّا أعطيتكم إيّاه حتّى لا تكون لكم عليّ حجّة).
- في سنة خمس وثلاثين للهجرة:
بدأ النّاس من كلّ الأمصار بالخروج للحجّ، وخرج معهم الثّائرون كأنّهم يريدون الحجّ وتوجّهوا إلى المدينة بدل مكّة لإجبار الخليفة على التّنازل على الخلافة أو يقتلوه وكانوا قرابة (١٨٠٠) رجل من مصر والكوفة والبصرة، وأقاموا على بعد ميلين من المدينة، وكان من الصّحابة الكرام من خرجوا من المدينة إلى مكّة لأداء الحجّ، ثمّ تفاجأ أهل المدينة بهم يدخلون المدينة والمسجد ويزاحمون فيه. وكانت آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه ذكّرهم فيها وأشهد من بقي من الصّحابة: (هل تعلمون أنّ رسول اللع قال: من يشتري بئر رومة ليسقي منها المسلمين وله بذلك مثلها في الجنّة، فاشتريتها، وفرح رسول الله، أناشدكم الله أفَعلتُ ذلك ؟ قالوا: اللّهمّ نعم)، قال: (أتعلمون أنّ النّبيّ وقف على منبره وقال: من يجهّز جيش العسرة، فقلت: أنا، فقال النّبيّ: ما ضرّ عثمان ما فعل بعد اليوم، قالوا: اللّهمّ نعم)، قال: (يا ابن الزّبير، هل سمعت قول رسول الله: عثمان حييّ في الجنّة ؟، قال الزّبير: أشهد أنّه قال)، قال: (أناشدك بالله يا طلحة، أسمعت رسول الله يقول فليأخذ كلّ منكم بيد جليسه، وقال رسول الله وأخذ بيدي وقال: إنّ عثمان جليسي في الدّنيا والآخرة، قال: اللّهمّ نعم)، قال: (هل سمعتم أنّ النّبيّ وقف على أحدٍ وقال: اثبت أحد، فإنّ عليك نبيّ وصدّيق وشهيدان)، فالصدّيق أبو بكر والشّهيد عمر وأنا الشّهيد الثّاني، قالوا: (اللّهمّ نعم)، قال: (الله أكبر، اللّهم لك الحمد، شهدوا لي بالشّهادة، إنّي بريء حتّى التقى رسول الله).
وفي ليلة الخميس الثّامن من عشر ذي الحجّة رأى النّبي بالمنام، فقال له: (عطّشوك يا عثمان ؟)، فقال له: (صم وأفطر عندنا)، فأصبح صائماً رضي الله عنه.
- مقتل عثمان رضي الله عنه وموقف الصّحابة من ذلك:
لمّا بدأت علائم الفتنة تلوح عياناً، عرض معاوية بن أبي سفيان على عثمان رضي الله عنه أن ينطلق إلى الشّام، قبل أن تتفاقم الأمور، فقال عثمان: (أنا لا أبيع جوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بشيء، ولو كان فيه قطع خيط عنقي)، فقال له معاوية: (إذن أبعث لك جيشاً من الشّام، يقيم في المدينة لمواجهة الأخطار المتوقّعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة)، فقال عثمان: (لا، حتّى لا أقتّر على جيران رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بجند تساكنهم، ولا أضيّق على أهل الهجرة والنّصرة)، فقال له معاوية: (يا أمير المؤمنين لتغتلنّ أو لتغزينّ)، فقال عثمان: (حسبي الله ونعم الوكيل).
وقد حدث كل ما توقّعه معاوية، فجاءت جموع أهل الفتنة لتحاصر عثمان وتغتاله في النّهاية.
واشتدّ الحصار على عثمان، حتّى مُنع من أن يحضر للصّلاة في المسجد، ولقد حاول جهده لحلّ هذه المصيبة، فتارةً بخطب النّاس عن حرمة دم المسلم، وأنّه لا يحلّ سفكه إلّا بحقّه، وتارةً يحدّث النّاس عن فضله وخدماته للإسلام، بكيف يُعقل أن يخون الأمانة ويعبث بأموال الأمّة.
واشتدّت سيطرة المترّدين على المدينة، وجعلوا يصلّون بالنّاس في أغلب الأوقات، وحينها عرض الصّحابة على عثمان أن يدافعوا عنه ويُخرجوا الغوغاء من المدينة إلّا أنّه رفض أن يُراق دمٌ بسببه.
وكان كبار الصّحابة قد أرسلوا أبناءهم دون استشارة عثمان رضي الله عنه، ومن هؤلاء: الحسن بن عليّ، وعبد الله بن الزّبير. إلّا أنّ عثمان أقسم على الحسن بالرّجوع إلى منزله، وذلك خشية أن يصيبه مكروه، وقد قال عثمان للحسن رضي الله عنهما: (ارجع يا ابن أخي حتّى يأتي الله بأمره).
وقد صحّت الرّوايات أنّ الحسن حُمل جريحاً من الدّار يوم الدّار، كما خرج غيره كعبد الله بن الزّبير ومحمّد بن حاطب وكان معهم الحسين بن عليّ وابن عمر رضي الله عنهم، وقد جاء بإسنادٍ قويّ عليّاً رضي الله عنه كان من أدفع النّاس عن عثمان، وشهد له بذلك مروان بن الحكم.
وأخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله أنّ عليّاً أرسل إلى عثمان، فقال: (إنّ معي خمسمائة دارع، فإذن لي فأمنعك من القوم، فإنّك لم تُحدث شيئاً يُستَحَلّ به دمك)، فقال: (جزيت خيراً، ما أُحبّ أن يراق دم في سبيلي).
وساهم عليّ رضي الله عنه بإدخال الماء إلى بيت عثمان عندما حوصر ومنعوا وصول الماء إليه.
ولمّا وصل خبر مقتل عثمان رضي الله عنه، ذهبت عقول الصّحابة، فهذا عليّ بن أبي طالب يقول لأبنائه وأبناء أخيه: (كيف قُتل عثمان وأنتم على الباب ؟!)،ولطم الحسن، وضرب صدر الحسين، وشتم ابن الزّبير وابن طلحة وخرج غضبان إلى منزله وهو يقول: (تبّاً لكم سائر الدّهر، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من دمه أن أكون قتلته أو مالأت على قتله). وقد ثبت ذلك عن عليّ رضي الله عنه في مواضع عديدة بأسانيد صحيحة تفيد القطع، وقد أورد ذلك علماء الأمّة أمثال ابن تيمية الّذي قال: (وهذا كلّه كذب على عليّ رضي الله عنه وافتراء عليه، فعليّ رضي الله عنه لم يشارك في دم عثمان ولا أمر ولا رضي، وقد رُوي عنه ذلك وهو الصّادق البارّ).
غير أنّ ما زعمته الشّيعة الرّافضة كذلك كُتُب التّاريخ الّتي اعتمدت الرّوايات الضّعيفة والموضوعة ثمّ الروايات الشّيعيّة الحاقدة على الصّحابة الّتي خالفت الرّوايات الصّحيحة الّتي بين أيدينا.
وخلاصة الكلام في موقف الصّحابة الكرام، أنّ الصّحابة جميعاً رضي الله عنهم أبرياء من دم عثمان رضي الله عنه، ومن قال خلاف ذلك، فكلامه باطل، ولا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى وثبة الصّحّة.
وقد أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم عن أبيه، قال: (قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار ؟، قال: لا، كانوا أعلوجاً من أهل مصر) (والعلج: كلّ جاف شديد من الرّجال).
وقال الإمام النّووي: (ولم يشارك في قتله أحد من الصّحابة، وإنّما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل، سفلة الأطراف والأراذل، تحزّبوا، وقصدوه من مصر، فعجز الصّحابة الحاضرون عن دفعهم، فحصروه حتّى قُتل رضي الله عنه).
لقد صمّت الأخبار وأكدت حوادث التّاريخ على براءة الصّحابة من التّحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضدّه.