الباب الثاني
حكم الإسلام في الأطعمة والأشربة
اختلفت الأمم والشعوب من قديم في أمر ما يأكلون وما يشربون، ما يجوز لهم، وما لا يجوز، وبخاصة في الأطعمة الحيوانية.
أما الأطعمة والأشربة النباتية فلم يعرف للبشر خلاف كثير في شأنها. ولم يحرم الإسلام منها إلا ما صار خمرا سواء اتخذ من عنب أو تمر أو شعير أو أي مادة أخرى ما دامت قد تخمرت.
وكذلك حرم ما يحدث الخدر والفتور وكل ما يضر الجسد، كما سنبين بعد. وأما الأطعمة الحيوانية فهي التي اختلف فيها الملل والجماعات اختلافا شاسعاً.
ذبح الحيوان وأكله عند البراهمة
هناك جماعات كالبراهمة وبعض المتفلسفين حرموا على أنفسهم ذبح الحيوان وأكله، وعاشوا على الأغذية النباتية، قالوا: إن في ذبح الحيوان قسوة من الإنسان على كائن حي مثله ليس له أن يحرمه من حق الحياة.
لكنا عرفنا من التأمل في الكائنات أن خلق هذه الحيوانات ليس غاية في نفسه، فإنها لم تؤت العقل والإرادة، ورأينا وضعها الطبيعي أن تسخر لخدمة الإنسان، وليس بغريب أن ينتفع الإنسان بلحمها ذبيحة، كما انتفع بتسخيرها صحيحة.
وعرفنا كذلك من سنة الله في الخليقة أن النوع الأدنى يضحى به في مصلحة النوع الأعلى منه، فالنبات الأخضر المترعرع يقطع من أجل غذاء الحيوان، والحيوان يذبح لأجل غذاء الإنسان، بل الإنسان الفرد يقاتل ويقتل في مصلحة المجموع … وهكذا.
على أن امتناع الإنسان عن ذبح الحيوان لن يحميه من الموت والهلاك، فهو إن لم يفترس بعضه بعضا سيموت حتف أنفه -وقد يكون ذلك أشد عليه ألما من شفرة حادة تعجل به.
الحيوانات المحرمة عند اليهود والنصارى
وفي الديانات الكتابية حرم الله على اليهود كثيرا جدا من الحيوانات البرية والبحرية، تكفل ببيانها الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين من التوراة.
وقد ذكر القرآن بعض ما حرم الله على اليهود، وعلة التحريم -كما ذكرنا من قبل- أنه كان عقوبة حرمان من الله لهم على ظلمهم وخطاياهم: (وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم، ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون) سورة الأنعام:146.
هذا شأن اليهود، وكان المفروض أن يكون النصارى تبعا لهم في هذا، فقد أعلن الإنجيل أن المسيح عليه السلام ما جاء لينقض الناموس، بل جاء ليكمله.
لكنهم هنا نقضوا الناموس واستباحوا ما حرم عليهم في التوراة -مما لم ينسخه الإنجيل- واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع الطعام والشراب، إلا ما ذبح للأصنام إذا قيل للمسيحي: إنه مذبوح لوثن.
وعلل بولس ذلك أن كل شيء طاهر للطاهرين، وأن ما يدخل الفم لا ينجس الفم، وإنما ينجسه ما يخرج منه.
وقد استباحوا بذلك أكل لحم الخنزير رغم أنه محرم بنص التوراة إلى اليوم.
عند عرب الجاهلية
وأما العرب في الجاهلية، فقد حرموا بعض الحيوانات تقذرا، وحرموا بعضها تعبدا، وتقربا للأصنام، واتباعا للأوهام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام -التي ذكرنا تفسيرها من قبل- وفي مقابل هذا استباحوا كثيرا من الخبائث كالميتة والدم المسفوح.
الإسلام يبيح الطيبات
جاء الإسلام والناس على هذه الحال في أمر الطعام الحيواني، بين مسرف في التناول، ومتطرف في الترك، فوجه نداء إلى الناس كافة في كتابه: (يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) سورة البقرة:168.
ناداهم بوصفهم (ناسا) أن يأكلوا من طيبات تلك المائدة الكبيرة التي أعدها لهم -وهي الأرض التي خلق لهم ما فيها جميعا- وألا يتبعوا مسالك الشيطان وطرقه التي زين بها لبعض الناس أن يحرموا ما أحل الله، فحرمهم من الطيبات، وأرداهم في مهاوي الضلال.
ثم وجه نداء إلى المؤمنين خاصة فقال:
(يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون. إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:172.173.
وفي هذا النداء الخاص للمؤمنين أمرهم سبحانه أن يأكلوا من طيبات ما رزقهم وأن يؤدوا حق النعمة بشكر المنعم جل شأنه. ثم بين أنه تعالى لم يحرم عليهم إلا هذه الأصناف الأربعة المذكورة في الآية، والتي ورد ذكرها في آيات أخر، أصرحها في الدلالة على حصر المحرمات في هذه الأربعة قوله تعالى في سورة الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة، أو دما مسفوحا، أو لحم خنزير -فإنه رجس- أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) سورة الأنعام:145.
وفي سورة المائدة ذكر القرآن هذه المحرمات بتفصيل أكثر فقال تعالى: (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم، وما ذبح على النصب) سورة المائدة:3.
ولا تنافي بين هذه الآية التي جعلت المحرمات عشرة والآيات السابقة التي جعلتها أربعة، إلا أن هذه الآية فصلت الآيات الأخرى، فإن المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلها في معنى الميتة، فهي تفصيل لها. كما أن ما ذبح على النصب في حكم ما أهل لغير الله به، فكلاهما من باب واحد. فالمحرمات أربعة بالإجمال، عشرة بالتفصيل.
تحريم الميتة وحكمته – تحريم الدم المسفوح – لحم الخنزير – ما أهل لغير الله به – أنواع من الميتة – ما ذبح على النصب – السمك والجراد مستثنى من الميتة – الانتفاع بجلود الميتة وعظمها وشعرها – ضرورة الدواء
أول ما ذكرته الأيات من محرمات الأطعمة هو: (الميتة) وهي ما مات حتف أنفه من الحيوان والطير. أي: ما مات بدون عمل من الإنسان يقصد به تذكيته أو صيده.
وقد يتساءل الذهن العصري عن الحكمة في تحريم الميتة على الإنسان، وإلقائها دون أن ينتفع بأكلها، ونجيب على ذلك بأن في تحريمها حكما جلية منها:
-أ- أن الطبع السليم يعافها ويستقذرها، والعقلاء في مجموعهم يعدون أكلها مهانة تنافي كرامة الإنسان، ولذا نرى أهل الملل الكتابية جميعا يحرمونها، ولا يأكلون إلا المذكى وإن اختلفت طريقة التذكية.
-ب- أن يتعود المسلم القصد والإرادة في أموره كلها، فلا يحرز شيئا أو ينال ثمرة إلا بعد أن يوجه إليه نيته وقصده وسعيه، ذلك أن معنى التذكية -التي تخرج الحيوان عن كونه ميتة- إنما هو: القصد إلى إزهاق روح الحيوان لأجل أكله. وكأن الله تعالى لم يرض للإنسان أن يأكل ما لم يقصده ولم يفكر فيه -كما هو الشأن في الميتة- فأما المذكى والمصيد فإنهما لا يؤخذان إلا بقصد وسعي وعمل.
-ج- إن ما مات حتف أنفه يغلب أن يكون قد مات لعلة مزمنة أو طارئة أو أكل نبات سام أو نحو ذلك. وكل ذلك لا يؤمن ضرره. ومثل هذا إذا مات من شدة الضعف وانحلال الطبيعة.
-د- إن الله تعالى بتحريم الميتة علينا -نحن بني الإنسان- قد أتاح بذلك فرصة للحيوانات والطيور، للتغذى منها، رحمة منه تعالى بها، لأنها أمم أمثالنا كما نطق القرآن. وهذا أوضح ما يكون في الفلوات والأماكن التي لا توارى فيها ميتة الحيوان.
-هـ- أن يحرص الإنسان على ما يملكه من الحيوان فلا يدعه فريسة للمرض والضعف حتى يموت فيتلف عليه. بل يسارع بعلاجه، أو يعجل بإراحته.
تحريم الدم المسفوح
وثاني هذه المحرمات هو: الدم المسفوح، أي: السائل. سئل ابن عباس عن الطحال، فقال: كلوه. فقالوا: إنه دم. فقال: إنما حرم عليكم الدم المسفوح. والسر في تحريمه أنه مستقذر يعافه الطبع الإنساني النظيف، كما أنه مظنة للضرر كالميتة.
وكان أهل الجاهلية إذا جاع أحدهم يأخذ شيئا محددا من عظم ونحوه، فيفصد به بعيره أو حيوانه فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه. وفي هذا يقول الأعشى:
ولا تأخذن عظما حديدا فتفصدا وإياك والميتات لا تقربنها
ولما كان في هذا الفصد إيذاء للحيوان وإضعاف له حرمه الله تعالى.
لحم الخنزير
وثالثهما: لحم الخنزير، فإن الطباع السليمة تستخبثه، وترغب عنه، لأن أشهى غذائه القاذورات والنجاسات، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله ضار في جميع الأقاليم ولا سيما الحارة. كما ثبت بالتجارب العلمية أن أكل لحمه من أسباب الدودة الوحيدة القتالة وغيرها من الديدان. ومن يدري، لعل العلم يكشف لنا في الغد من أسرار هذا التحريم أكثر مما عرفنا اليوم، وصدق الله العظيم إذ وصف رسوله بقوله (ويحرم عليهم الخبائث) الأعراف:157.
ومن الباحثين من يقول: إن المداومة على أكل لحم الخنزير تورث ضعف الغيرة على الحرمات.
ما أهل لغير الله به
ورابع المحرمات: ما أهل لغير الله به. أي: ما ذبح وذكر عليه اسم غير الله كالأصنام، فقد كان الوثنيون إذا ذبحوا ذكروا على ذبيحتهم أسماء أصنامهم كاللات والعزى، فهذا تقرب إلى غير الله، وتعبد بغير اسمه العظيم. فعلة التحريم هنا علة دينية محضة، لحماية التوحيد، وتطهير العقائد، ومحاربة الشرك ومظاهر الوثنية في كل مجال من مجالاتها.
إن الله الذي خلق الإنسان، وسخر له ما في الأرض، وذلل له الحيوان، أباح له إزهاق روحه في مصلحته إذا ذكر اسمه تعالى عند ذبحه، وذكر اسم الله حينئذ إعلان بأنه إنما يصنع هذا الصنيع بهذا الكائن الحي بإذن من الله ورضاه، فإذا ذكر اسم غير الله عند ذبحه فقد أبطل هذا الإذن واستحق أن يحرم من هذا الحيوان المذبوح.
أنواع من الميتة
هذه الأربعة المذكورة هي المحرمات إجمالا, وقد فصلتها آية المائدة في عشرة كما ذكرنا في أنواع الميتة التي فصلتها:
- المنخنقة: وهي التي تموت اختناقا، بأن يلتف وثاقها على عنقها أو تدخل رأسها في مضيق أو نحو ذلك.
- الموقوذة: وهي التي تضرب بالعصا ونحوها حتى تموت.
- المتردية: وهي التي تتردى من مكان عال فتموت ومثلها التي تتردى في بئر.
- النطيحة: وهي التي تنطحها أخرى فتموت.
- ما أكل السبع: وهي التي أكل السبع -الحيوان المفترس- جزءا منها فماتت.
وقد ذكر الله بعد هذه الأنواع الخمسة قوله تعالى (إلا ما ذكيتم) أي ما أدركتم من هذه الحيوانات وفيه حياة فذكيتموه. أي: أحللتموه بالذبح ونحوه كما سنتحدث بعد.
ويكفي في صحة إدراك ما ذكر أن يكون فيه رمق من الحياة. فعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة.. وهي تحرك يدا أو رجلا فكلها. وعن الضحاك: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا فحرمه الله في الإسلام إلا ما ذكى منه، فما أدرك فتحرك منه رجل أو ذنب أو طرف (عين) فذكى فهو حلال.
حكمة تحريم هذه الأنواع
والحكمة في تحريم هذه الأنواع من الميتة ما ذكرنا في تحريم الميت حتف أنفه ما عدا توقع الضرر، إذ لا يظهر ههنا. وتتأكد الحكمة الأخيرة هنا أيضا، فإن الشارع الحكيم يعلم الناس العناية بالحيوان والرأفة به والمحافظة عليه، فلا ينبغي أن يهمل حتى ينخنق أو يتردى من مكان عال أو نترك الحيوانات تتناطح حتى يقتل بعضها بعضا، ولا يجوز أن يعذب الحيوان بالضرب حتى يموت موقوذا، كما يفعل ذلك بعض قساة الرعاة -وبخاصة الأجراء منهم- وكما يحرشون بين البهائم فيغرون الثورين أو الكبشين بالتناطح حتى يهلكا أو يوشكا.
ومن هنا نص العلماء على تحريم النطيحة وإن جرحها القرن، وخرج منها الدم ولو من مذبحها، لأن المقصود -كما يلوح لي- هو عقوبة من ترك هذه الحيوانات تتناطح حتى يقتل بعضها بعضا فحرمت عليه جزاء وفاقا.
وأما تحريم ما أكل السبع ففيه -أول ما فيه- تكريم للإنسان، وتنزيه له أن يأكل فضلات السباع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة فحرم الله ذلك على المؤمنين.
ما ذبح على النصب
- وعاشر المحرمات بالتفصيل هو: ما ذبح على النصب. والنصب هو الشيء المنصوب من أصنام أو حجارة تقام أمارة للطاغوت وهو ما عبد من دون الله -وكانت حول الكعبة- وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها أو عندها بقصد التقرب إلى آلهتهم وأوثانهم.
فهذا منجنس ما أهل لغير الله به، لأن في كليهما تعظيم الطاغوت، والفرق بينهما أن ما أهل لغير الله به قد يكون ذبح لصنم من الأصنام بعيدا عنه وعن النصب، وإنما ذكر عليه اسم الطاغوت. أما ما ذبح على النصب فلا بد أن يذبح على تلك الحجارة أو عندها، ولا يلزم أن يتلفظ باسم غير الله عليه.
ولما كانت هذه النصب حول الكعبة، وقد يتوهم متوهم أن في الذبح عليها تعظيما للبيت الحرام، أزال القرآن هذا الوهم ونص على تحريمها نصا صريحا وإن كان مفهوما مما أهل لغير الله به.
السمك والجراد مستثنى من الميتة
وقد استثنت الشريعة الإسلامية من الميتة المحرمة السمك والحيتان ونحوهما من حيوانات الماء. فحين سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر: “قال هو الطهور ماؤه الحل ميتته”.
وقال تعالى: (أحل لكم صيد البحر وطعامه) سورة المائدة:96. قال عمر: صيده ما اصطيد منه طعامه ما رمي به. وقال ابن عباس أيضا: طعامه ميتته.
وفي الصحيحين عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية من أصحابه، فوجدوا حوتا كبيرا قد جزر عنه البحر -أي ميتا- فأكلوا منه بضعة وعشرين يوما، ثم قدموا إلى المدينة، فأخبروا الرسول عليه السلام فقال: “كلوا رزقا أخرجه الله لكم، أطعمونا إن كان معكم” فأتاه بعضهم بشيء فأكله.
ومثل ميتة البحر الجراد، فقد رخص رسول الله في أكله ميتا، لأن ذكاته غير ممكنة. قال ابن أبي أوفى رضي الله عنه: “غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل معه الجراد”.
الانتفاع بجلود الميتة وعظمها وشعرها
وتحريم الميتة إنما يعني تحريم أكلها. فأما الانتفاع بجلدها أو قرونها أو عظمها أو شعرها فلا بأس به، بل هو أمر مطلوب، لأنه مال يمكن الاستفادة منه فلا تجوز إضاعته.
عن ابن عباس قال: تصدق على مولاة لميمونة -أم المؤمنين- بشاة فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “هلا أخذتم إهابها -جلدها- فدبغتموه فانتفعتم به؟” فقالوا: إنها ميتة! فقال صلى الله عليه وسلم: “إنما حرم أكلها”.
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم السبيل إلى تطهير جلد الميتة، وهو الدباغ، وقال في حديث “دباغ الأديم -الجلد- ذكاته” أي: إن الدباغ في التطهير بمنزلة الذكاة في إحلال الشاة ونحوها. وفي رواية: “أيما إرهاب دبغ فقد طهر”.
وهو عام يشمل كل جلد ولو كان جلد كلب أو خنزير. وبذلك قال أهل الظاهر، وحكي عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة، ورجحه الشوكاني.
وعن سودة أم المؤمنين قالت: “ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها -جلدها- ثم ما زلنا ننتبذ فيه -أي: نضع فيه التمر ليحلو الماء- حتى صار شنا، أي: قربة خرقة”.
حالة الضرورة مستثناة
كل هذه المحرمات المذكورة إنما هي في حالة الاختيار.
أما الضرورة فلها حكمها -كما ذكرنا من قبل- وقد قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم إلا ما اضطررتم إليه) سورة الأنعام:119. وقال تعالى -بعد أن ذكر تحريم الميتة والدم وما بعدهما- (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) سورة البقرة:173.
والضرورة المتفق عليها هي ضرورة الغذاء، بأن يعضه الجوع -وقد حده بعض الفقهاء بأن يمر عليه يوم وليلة- ولا يجد ما يأكله إلا هذه الأطعمة المحرمة، فله أن يتناول منها ما يدفع به الضرورة ويتقي الهلاك. وقال الإمام مالك: حد ذلك الشبع والتزود منها حتى يجد غيرها. وقال غيره: لا يأكل منها إلا ما يمسك الرمق… ولعل هذا هو الظاهر من قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد) أي غير باغ (طالب) للشهوة، ولا عاد (متجاوز) حد الضرورة. وضرورة الجوع قد نص عليها القرآن نصا صريحا بقوله: (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم) سورة المائدة:3 “والمخمصة: المجاعة”.
ضرورة الدواء
وأما ضرورة الدواء -بأن يتوقف برؤه على تناول شيء من هذه المحرمات- فقد اختلف في اعتبارها الفقهاء.. فمنهم من لم يعتبر التداوي ضرورة قاهرة كالغذاء، واستند كذلك إلى حديث “إن الله لم يجعل شفائكم فيما حرم عليكم”.
ومنهم من اعتبر هذه الضرورة وجعل الدواء كالغذاء، فكلاهما لازم للحياة في أصلها أو دوامها، وقد استدل هذا الفريق -على إباحة هذه المحرمات للتداوي- بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما لحكة -جرب- كانت بهما. مع نهيه عن لبس الحرير، ووعيده عليه.
وربما كان هذا القول أقرب إلى روح الإسلام الذي يحافظ على الحياة الإنسانية في كل تشريعاته ووصاياه.
ولكن الرخصة في تناول الدواء المشتمل على محرم مشروطة بشروط:
- أن يكون هناك خطر حقيقي على صحة الإنسان إذا لم يتناول هذا الدواء.
- ألا يوجد دواء غيره من الحلال يقوم مقامه أو يغني عنه.
- أن يصف ذلك طبيب مسلم ثقة في خبرته وفي دينه معا.
على أنا نقول مما نعرفه من الواقع التطبيقي، ومن تقرير ثقات الأطباء: أن لا ضرورة طبية تحتم تناول شيء من هذه المحرمات -كدواء- ولكننا نقرر المبدأ احتياطا لمسلم قد يكون في مكان لا يوجد فيه إلا هذه المحرمات.
الفرد ليس بمضطر إذا كان في المجتمع ما يدفع ضرورته
وليس من شرط الضرورة ألا يجد الإنسان طعاما في ملكه هو فحسب، بل لا يكون مضطرا لتناول هذه الأطعمة المحرمة، إذا كان في أفراد مجتمعه -مسلمهم أو ذميهم- من يملك من فضل الطعام ما يدفع به الضرورة عنه. فإن المجتمع الإسلامي متكامل متكافل كأجزاء الجسد الواحد أو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
ومن اللفتات القيمة لفقهاء الإسلام في التكافل الاجتماعي ما قرره الإمام ابن حزم إذ قال: “لا يحل لمسلم اضطر، أن يأكل ميتة أو لحم خنزير، وهو يجد طعاما -فيه فضل عن صاحبه- لمسلم أو ذمي، لأن فرضا على صاحب الطعام إطعام الجائع.. فإذا كان ذلك كذلك فليس بمضطر إلى الميتة ولا لحم الخنزير. وله أن يقاتل عن ذلك، فإن قتل فعلى قاتله القود -أي: القصاص- وإن قتل المانع، فإلى لعنة الله، لأنه منع حقا. وهو طائفة باغية. قال تعالى: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) سورة الحجرات:9. ومانع الحق باغ على أخيه الذي له الحق. وبهذا قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه مانعي الزكاة.
الذكـاة الشــرعيــة
الحيوانات البحرية حلال كلها
الحيوانات من حيث مسكنها ومستقرها نوعان: بحرية وبرية.
فالبحرية -ونعني ما يسكن جوف الماء ولا يعيش إلا فيه- كلها حلال، كيفما وجدت، سواء أخذت من الماء حية أو ميتة، طفت أو لم تطف يستوي في ذلك السمك والحيتان، وما يسمى كلب البحر أو خنزير البحر أو غير ذلك، ولا عبرة بمن أخذها وصادها، مسلما أو غير مسلم، فقد وسع الله على عباده بإباحة كل ما في البحر، دون أن يحرم نوعا معينا، أو يشترط ذكاة له كغيره، بل ترك للإنسان أن يجهز على ما يحتاج إلى الإجهاز منه بما يستطيع متجنبا التعذيب ما أمكنه.
قال تعالى ممتنا على عباده: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا) سورة النحل:الآية 14. وقال: (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة) سورة المائدة:96، أي: المسافرين. فعم سبحانه وتعالى ولم يخص شيئا من أشياء (وما كان ربك نسيا).
المحرم من الحيوانات البرية
وأما الحيوانات البرية فلم يصرح القرآن بتحريم شيء منها إلا لحم الخنزير خاصة -والميتة والدم وما أهل لغير الله به من أي حيوان- كما تقدم في الآيات التي جاءت بصيغة محددة حاصرة للمحرمات في أربعة إجمالا وعشرة تفصيلا.
ولكن القرآن الكريم قال عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) سورة الأعراف:157.
والخبائث هي التي يستقذرها الذوق الحسي العام للناس في مجموعهم وإن أساغها أفراد منهم.
ومن ذلك أنه “نهى عليه السلام عن أكل لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر”.
ومن ذلك ما روي في الصحيحين أنه “نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير”.
والمراد بالسباع ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا كالأسد والنمر والذئب ونحوها. والمراد بذي المخلب من الطير ما كان له ظفر جارح كالنسر والبازي والصقر والحدأة.
ومذهب ابن عباس رضي الله عنه لا حرام إلا الأربعة المذكورة في القرآن وكأنه يرى أن أحاديث النهي عن السباع وغيرها تفيد الكراهة لا التحريم، أو لعلها لم تبلغه. قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله نبيه، وأنزل كتابه فأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو. وتلا: (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم …) سورة الأنعام:145.
وبهذه الأية كان يرى ابن عباس أن لحم الحمر الإنسية حلال.
وإلى مذهب ابن عباس ينزع الإمام مالك، حيث لم يقل بحرمة السباع ونحوها، واكتفى بكراهتها.
ومن المقرر أن الذكاة الشرعية لا تأثير لها في الحيوانات المحرمة من حيث إباحة أكلها، إلا أنها تؤثر في تطهير الجلد دون اشتراط الدباغ.
اشتراط الذكاة لإباحة الحيوانات المستأنسة
وما أبيح أكله من الحيوانات البرية نوعان:
نوع مقدور عليه متمكن منه، كالأنعام من إبل وبقر وغنم، وغيرها من الحيوانات المستأنسة والدواجن والطيور التي تربى في المنازل ونحوها.
ونوع غير مقدور عليه ولا يتمكن منه.
أما النوع الأول فقد اشترط الإسلام لإباحته أن يذكى تذكية شرعية.
شروط الذكاة الشرعية
والذكاة الشرعية المطلوبة إنما تتم بشروط.
- أن يذبح الحيوان أو ينحر بآلة حادة مما ينهر الدم ويفري الأوداج ولو كان حجرا أو خشبا. فعن عدي بن حاتم الطائي قال: يا رسول الله، إننا يصيد الصيد فلا نجد سكينا إلا الظرار (أي الحجر أو المدر المحدد منه) وشقة العصا (أي من البوص) فقال: أمر الدم (أي أرقه) بما شئت واذكر اسم الله عليه.
- أن يكون في الحلق أو اللبة (النحر) وذلك بقطع في الحلق يكون الموت في أثره، أو طعن في اللبة يكون الموت في أثره.
وأكمل الذبح أن يقطع الحلقوم والمريء (وهو مجرى الطعام والشراب من الحلق) والودجان (وهما عرقان غليظان في جانبي ثغرة النحر).
ويسقط هذا الشرط إذا تعذر الذبح في موضعه الخاص كأن يتردى الحيوان في بئر من جهة رأسه بحيث لا ينال حلقه ولا لبته، أو يند ويتمرد على طبيعته المستأنسة، لهذا يعامل معاملة الصيد، ويكفي أن يجرح بمحدد في أي موضع مستطاع منه.
وفي الصحيحين عن رافع بن خديج قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفره فند بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش فما فعل منها هذا فافعلوا به هكذا”.
- ألا يذكر عليه اسم غير الله. وهذا مجمع عليه وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتقربون إلى آلهتهم واصنامهم بالذبح لأجلها: إما بالإهلال عند الذبح بأسمائها، وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لها، فحرم القرآن ذلك كله كما ذكرنا (وما أهل لغير الله به.. وما ذبح على النصب)
- أن يذكر اسم الله على الذبيحة هذا هو الظاهر من النصوص، فالقرآن يقول: (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) سورة الأنعام:118 ويقول: (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إنه لفسق..) سورة الأنعام:121. والرسول عليه السلام يقول: “ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه”.
وما يؤيد إيجاب هذا الشرط الأحاديث التي صحت في اشتراك التسمية في الصيد، عند رمي السهم أو إرسال الكلب المعلم كما سيأتي.
وذهب بعض العلماء إلى أن ذكر اسم الله لا بد منه، ولكن ليس من اللازم أن يكون ذلك عند الذبح، بل يجزئ عنه أن يذكره عند الأكل فإنه إذا سمى عند الأكل على ما يأكله لم يكن آكلا ما لم يذكر اسم الله عليه. وفي صحيح البخاري عن عائشة أن قوما حديثي عهد بجاهلية قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: “إن قوما يأتوننا باللحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم لم يذكروا؟ أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اذكروا اسم الله وكلوا””.
سر هذه الذكاة وحكمتها
والسر في هذه الذكاة -كما يلوح لنا- هو إزهاق روح الحيوان بأقصر طريق يريحه بغير تعذيب. لهذا اشترطت الآلة المحددة وهي أسرع أثرا واشترط الذبح في الحلق -وهو أقرب المواضع لمفارقة الحياة بسهولة- ونهي عن الذبح بالسن والظفر، لأن الذبح بهما تعذيب للحيوان، ولا يقع بهما غالبا إلا الخنق، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحداد الشفرة وإراحة الذبيحة “إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته”.
ومن هذا الإحسان ما رواه ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم وقال: “إذا ذبح أحدكم فليجهز” أي: فليتم.
وعن ابن عباس أن رجلا أضجع شاة وهو يحد شفرته. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أتريد أن تميتها موتات ؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟”
وراى عمر رجلا يسحب شاة برجلها ليذبحها، فقال له: ويلك !! قدها إلى الموت قودا جميلا.
وهكذا نجد الفكرة العامة في هذا الباب هي الرفق بالحيوان الأعجم وإراحته من العذاب ما استطاع الإنسان إلى ذلك سبيلا.
وقد كان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل -وهي حية- ويقطعون أليات الغنم وكان في ذلك تعذيب لهذه الحيوانات، ففوت النبي صلى الله عليه وسلم مقصودهم وحرم عليهم الانتفاع بهذه الأجزاء، فقال: “ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة”.
حكمة التسمية عند الذبح
أما طلب التسمية عند الذكاة فإن لها سرا لطيفا ينبغي التنبه له والالتفات إليه. في من جهة مضادة لما كان يصنع الوثنيون وأهل الجاهلية من ذكر أسماء آلهتهم المزعومة عند الذبح، وإذا كان المشرك يذكر في هذا الموضع اسم صنمه فكيف لا يذكر المؤمن اسم ربه؟
ومن جهة ثانية، فإن هذه الحيوانات تشترك مع الإنسان في أنها مخلوقة لله، وأنها كائنات حية ذات روح.. فلماذا يتسلط الإنسان عليها، ويزهق أرواحها، إلا أن يكون ذلك بإذن من خالقه، الذي خلق له ما في الأرض جميعا؟ وذكر اسم الله هنا هو إعلان بهذا الإذن الإلهي. كأن الإنسان يقول: إنني لا أفعل ذلك عدوانا على هذه الكائنات، ولا استضعافا لتلك المخلوقات، ولكن باسم الله أذبح، وباسم الله أصيد ، وباسم الله آكل.
ذبائح أهل الكتاب (اليهود والنصارى)
رأينا كيف شدد الإسلام في أمر الذبح واهتم به، لأن مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل جعلوا الذبائح من أمور العبادات بل من شؤون العقيدة وأصول الدين، فصاروا يتعبدون بذبح الذبائح لآلهتهم، فيذبحون على النصب عندها أو يهلون باسمها عند الذبح، وحرم ما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به.
ولما كان أهل الكتاب أهل توحيد في الأصل، ثم سرت إليهم نزعات الشرك ممن دخل في دينهم من المشركين الذين لم يتخلصوا تماما من أدران شركهم القديم، وكان هذا مظنة لأن يفهم بعض المسلمين أن معاملة أهل الكتاب في ذلك كأهل الأوثان -رخص الله تعالى في مؤاكلة أهل الكتاب كما رخص في مصاهرتهم- فقال تعالى في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل من القرآن: (اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) سورة المائدة:5.
ومعنى هذه الآية إجمالا: اليوم أحل لكم الطيبات، فلا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام. وطعام الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حل لكم بمقتضى الأصل، لم يحرمه الله عليكم قط، وطعامكم حل لهم كذلك أيضا، فلكم أن تأكلوا من اللحوم التي ذكوا حيوانها أو صادوه، ولكم أن تطعموهم مما تذكون وتصطادون.
وإنما شدد الإسلام مع مشركي العرب، وتساهل مع أهل الكتاب، لأنهم أقرب إلى المؤمنين، لاعترافهم بالوحي والنبوة وأصول الدين في الجملة. وقد شرعت لنا موادتهم بمؤاكلتهم ومصاهرتهم وحسن معاشرتهم لأنهم إذا عاشرونا وعرفوا الإسلام في بيئته ومن أهله، على حقيقته، علما وعملا وخلقا، ظهر لهم أن ديننا هو دينهم في أسمى معانيه، وأكمل صوره، وأنقى صحائفه، مبرأ من البدع والأباطيل والوثنيات.
وكلمة (طعام الذين أوتوا الكتاب) كلمة عامة تشمل كل طعام لهم: ذبائحهم وحبوبهم وغيرها، فكل ذلك حلال لنا، ما لم يكن محرما لعينه كالميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، فهذه لا يجوز أكلها بالإجماع سواء أكانت طعام كتابي أو مسلم.
بقي هنا إيضاح عدة مسائل يهم المسلمين معرفتها:
ما يذبح للكنائس والأعياد
- إذا لم يسمع من الكتابي أنه سمى غير الله عند الذبح كالمسيح والعزير، فإن ذبيحته حلال. وأما إذا سمع منه تسمية غير الله، فمن الفقهاء من يحرم ذبيحته تلك لأنها مما أهل لغير الله به.
وبعضهم يقول: أباح الله لنا طعامهم وهو أعلم بما يقولون.
وسئل أبو الدرداء رضي الله عنه عن كبش ذبح لكنيسة يقال لها (جرجس) أهدوه لها: أنأكل منه ؟ فقال أبو الدرداء للسائل: اللهم عفوا، إنما هم أهل كتاب طعامهم حل لنا وطعامنا حل لهم. وأمره بأكله.
وسئل الإمام مالك فيما ذبحه أهل الكتاب لأعيادهم وكنائسهم فقال: أكرهه ولا أحرمه. وإنما كرهه من باب الورع خشية أن يكون داخلا فيما أهل لغير الله به، ولم يحرمه لأن معنى ما أهل به عنده -بالنسبة لأهل الكتاب- إنما هو فيما ذبحوه لآلهتهم مما يتقربون به إليها ولا يأكلونه فأما ما يذبحونه ويأكلونه فهو من طعامهم وقد قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم).
ما ذكوه بطريق الصعق الكهربائي ونحوه
- المسألة الثانية: هل يشترط أن تكون تذكيتهم مثل تذكيتنا: بمحدد في الحلق ؟ اشترط ذلك أكثر العلماء، والذي أفتى به جماعة من المالكية أن ذلك ليس بشرط.
قال القاضي ابن العربي في تفسير آية المائدة: “هذا دليل قاطع على أن الصيد وطعام الذين أوتوا الكتاب من الطيبات التي أباحها الله، وهو الحلال المطلق، وإنما كرره الله تعالى ليرفع به الشكوك ويزيل الاعتراضات عن الخواطر الفاسدة، التي توجب الاعتراضات وتحوج إلى تطويل القول.
ولقد سئلت عن النصراني يفتل عنق الدجاجة ثم يطبخها: هل تؤكل معه أو تؤخذ منه طعاما ؟ فقلت: تؤكل، لأنها طعامه وطعام أحباره ورهبانه، وإن لم تكن هذه ذكاة عندنا، ولكن أباح الله لنا طعامهم مطلقا، وكل ما يرونه في دينهم، فإنه حلال لنا إلا ما كذبهم الله فيه. ولقد قال علماؤنا: إنهم يعطوننا نساءهم أزواجا، فيحل لنا وطؤهن، فكيف لا نأكل ذبائحهم، والأكل دون الوطء في الحل والحرمة؟”
هذا ما قرره ابن العربي. وقال في موضع ثان: “ما أكلوه على غير وجه الذكاة كالخنق وحطم الرأس (أي بغير قصد التذكية) ميتة حرام”. ولا تنافي بين القولين، فإن المراد: أن ما يرونه مذكى عندهم حل لنا أكله، وإن لم تكن ذكاته عندنا ذكاة صحيحة، وما لا يرونه مذكى عندهم لا يحل لنا. والمفهوم المشترك للذكاة: هو القصد إلى إزهاق روح الحيوان بنية تحليل أكله.
وهذا هو مذهب جماعة المالكية.
وعلى ضوء ما ذكرناه نعرف الحكم في اللحوم المستوردة من عند أهل الكتاب كالدجاج ولحوم البقر المحفوظة، مما قد تكون تذكيته بالصعق الكهربائي ونحوه. فما داموا يعتبرون هذا حلالا مذكى فهو حل لنا، وفق عموم الآية. أما اللحوم المستوردة من بلاد شيوعية: فلا يجوز تناولها بحال، لأنهم ليسوا أهل كتاب وهم يكفرون بالأديان كلها، ويجحدون بالله ورسالاته جميعا.
ذبيحة المجوسي ومن ماثله
اختلف العلماء في ذبيحة المجوس، فالأكثرون يمنعون من أكلها لأنهم مشركون.
وقال آخرون: هي حلال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”سنوا بهم سنة أهل الكتاب”. وقد قبل الجزية من مجوس هجر.
وقال ابن حزم في باب التذكية من كتابه (المحلى): “وإنهم أهل كتاب فحكمهم كحكم أهل الكتاب في كل ذلك”.
والصابئون عند أبي حنيفة أهل كتاب أيضا.
قاعدة: ما غاب عنا لا نسأل عنه
وليس على المسلم أن يسأل عما غاب عنه: كيف كانت تذكيته ؟ وهل استوفت شروطها أم لا ؟ وهل ذكر اسم الله على الذبيحة أم لم يذكر ؟ بل كل ما غاب عنا مما ذكاه مسلم -ولو جاهلا أو فاسقا- أو كتابي، فحلال أكله.
وقد ذكرنا من قبل حديث البخاري أن قوما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال عليه السلام: “سموا الله عليه أنتم وكلوا”.
قال العلماء في هذا الحديث: هذا دليل على أن الأفعال والتصرفات تحمل على حال الصحة والسلامة، حتى يقوم دليل على الفساد والبطلان.
الصــيــد
كان كثيرا من العرب وغيرهم من الأمم يعيشون على الصيد، لذلك عني به القرآن والسنة وخصص الفقهاء له أبوابا مستقلة، فصلوا فيها ما يحل منه وما يحرم، وما يجب فيه وما يستحب.
ذلك أن هناك كثيرا من الحيوانات والطيور المستطاب لحمها، لا يتمكن الإنسان منها ولا يقدر عليها، لأنها غير مستأنسة له، فلم يشترط الإسلام فيها ما اشترط في الحيوانات الإنسية من الذكاة في الحلق أو اللبة، واكتفى في تذكيتها بما يسهل في مثلها تخفيفا على الإنسان وتوسعة عليه، وأقر الناس في هذا الأمر على ما هدتهم إليه الفطرة والحاجة، وإنما أدخل عليه تنظيمات واشتراطات تخضعه لعقيدة الإسلام ونظامه، وتصبغه -ككل شؤون المسلم- بالصبغة الإسلامية. وهذه الاشتراطات منها ما يتعلق بالصائد، ومنها ما يتعلق بالمصيد، ومنها ما يتعلق بما يكون به الصيد.
هذا كله في صيد البر، أما صيد البحر فقد تقدم أن الله أحله جملة دون قيد (أحل لكم صيد البحر وطعامه) سورة المائدة:96.
ما يتعلق بالصائد
- أما الصائد لصيد البر فيشترط فيه ما يشترط في الذابح: بأن يكون مسلما، أو من أهل الكتاب، أو من هو في حكم أهل الكتاب كالمجوس والصابئين.
ومن التوجيهات التي علمها الإسلام للصائد: ألا يكون عابثا بصيده، فيزهق هذا الأرواح، دون قصد منه إلى أكلها أو الانتفاع بها. وفي الحديث: “من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله يوم القيامة، يقول: يا رب، إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني منفعة”.
وفي الحديث الآخر: “ما من إنسان يقتل عصفورا فما فوقها بغير حقها إلا سأله الله عنها يوم القيامة !! قيل: يا رسول الله، وما حقها ؟ قال: أن يذبحها فيأكلها، ولا يقطع رأسها فيرمي به”.
هذا ويشترط في الصائد أيضا ألا يكون محرما بحج أو عمرة، فإن المسلم في فترة الإحرام يكون في مرحلة سلام كامل وأمن شامل، يمتد نطاقه حتى يشمل ما حوله من حيوان في الأرض أو طير في السماء حتى ولو كان الصيد أمامه تناله يده أو رمحه، ولكنه الابتلاء والتربية التي تكون المؤمن القوي الصابر. وفي ذلك يقول الله: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم. يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) سورة المائدة:95. (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) سورة المائدة:96. (غير محلي الصيد وأنتم حرم) سورة المائدة:1.
ما يتعلق بالمصيد
- وأما الشروط التي تتعلق بالمصيد، فأن يكون حيوانا مما لا يقدر الإنسان على تذكيته في الحلق واللبة، فإن قدر على تذكيته في ذلك فلا بد منها ولا يلجأ إلى غيرها، لأنها الأصل.
وكذلك لو رماه بسهمه أو سلط عليه كلبه ثم أدركه وفيه حياة مستقرة فعليه أن يحله بالذبح المعتاد في الحلق، فإن كان به حياة غير مستقرة، فإن ذبحه فحسن، وإن تركه يموت من نفسه فلا إثم عليه وفي (الصحيحين): “وإذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه”.
ما يكون به الصيد
- وأما ما يكون به الصيد فنوعان:
-أ- الآلة الجارحة كالسهم والسيف والرمح كما أشارت الآية (تناله أيديكم ورماحكم) سورة المائدة:94.
-ب- الحيوان الجارح الذي يقبل التعليم كالكلب والفهد من سباع البهائم، والباز والصقر من سباع الطير. قال تعالى: (قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله) سورة المائدة:4.
الصيد بالسلاح الجارح
والصيد بالآلة يشترط فيها أمران:
أولا: أن تنفذ في الجسد بحيث يكون قتلها بالنفاذ والخدش لا بالثقل. وقد سأل عدي بن حاتم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيبه ! قال: “إذا رميت بالمعراض فخزق -أي: نفذ في الجسد- فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل” والحديث متفق عليه.
وقد دل الحديث على أن المعتبر هو الخزق وإن كان القتل بمثقل، وعلى هذا يحل ما صيد برصاص البنادق والمسدسات ونحوها، فإنها تنفذ في الجسم أشد من نفاذ السهم والرمح والسيف.
أما ما رواه أحمد من حديث “لا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت” وما رواه البخاري من قول ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة. فالبندقة هنا هي التي تتخذ من طين فييبس فيرمى بها، فهي شيء غير البندقة تماما.
ومثل البندقة ما صيد بحصى الخذف، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخذف -الرمي بحصاة ونحوها- وقال: “إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا، لكنها تكسر السن، وتفقأ العين”.
ثانيا: أن يذكر اسم الله على الآلة عند الرمي والضرب بها كما علم النبي صلى الله عليه وسلم عدي بن حاتم. وأحاديثه هي الأصل في هذا الباب.
الصيد بالكلاب ونحوها
فإذا كان الصيد بكلب أو باز مثلا فالمطلوب فيه:
أولا: أن يكون معلما.
ثانيا: أن يصيد الصيد لأجل صاحبه، وتبعبير القرآن: أن يمسك على صاحبه لا على نفسه.
ثالثا: أن يذكر اسم الله عليه عند إرساله.
وأصل هذه الشروط هو ما نطقت به الآية الكريمة (سيألونك ماذا أحل لهم ؟ قل: أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله، فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه) سورة المائدة:4.
- وحد التعليم معروف، وهو قدرة صاحب الكلب على التحكم فيه وتوجيهه بحيث يدعوه فيجيب، ويغريه بالصيد فيندفع وراءه. ويزجره فينزجر -على خلاف بين الفقهاء في اشتراط بعض هذه الأشياء- المهم أن يتحقق التعليم وهو أمر يدرك بالعرف.
- وحد الإمساك على صاحبه ألا يأكل منه. قال صلى الله عليه وسلم: “إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد، فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه، فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل فإنما أمسكه على صاحبه”.
ومن الفقهاء من فرق بين سباع البهائم كالكلاب وسباع الطير كالصقر، فأباح ما أكل منه الطير دون ما أكل منه الكلب.
والحكمة في هذين الشرطين تعليم الكلب ونحوه، ثم أمساكه على صاحبه هو السمو بالإنسان، وتنزيهه أن يأكل فضلات الكلاب، وفرائس السباع مما يمكن أن يتساهل فيه ضعفاء النفوس، فأما إذا كان الكلب معلما، وأمسك على صاحبه، فشأنه في تلك الحالة شأن الآلة التي يستعملها الصائد كالنبال والرماح.
- وذكر اسم الله عند إرسال الكلب كذكره عند قذف السهم أو وخز الرمح أو ضرب السيف. وقد أمرت الآية به ههنا (واذكروا اسم الله عليه) سورة المائدة:4. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة المتفق عليها، كحديث عدي بن حاتم.
ومما يدل على هذا الشرط أنه لو شارك كلبه كلب آخر فإن صيدهما لا يحل. فحين سأل عدي النبي صلى الله عليه وسلم قائلا: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا، لا أدري أيها أخذه ؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: “فلا تأكل؛ فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره”.
فإذا نسي التسمية عند الرمي أو الإرسال فقد وضع الله عن هذه الأمة المؤاخذة بالنسيان والخطأ، وليتدارك ذلك عند الأكل كما مر في الذبح.
وقد بينا عند الكلام على الذبح الحكمة في طلب التسمية باسم الله، وما قيل هناك يقال هنا أيضا.
إذا وجد الصيد ميتا بعد الرمية
يحدث أحيانا أن يرمي الصائد سهمه فيصيب الصيد، ثم يغيب عنه فيجده بعد ذلك ميتا، وربما كان ذلك ميتا، وربما كان ذلك بعد أيام. وفي هذه الحالة يكون الصيد حلالا بشروط:
- ألا يقع في الماء. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا رميت سهمك. فإن وجدته قد قتل فكل، إلا أن تجده قد وقع في ماء فإنك لا تدري: الماء قتله أم سهمك؟”.
- ألا يجد فيه أثرا لغير سهمه يعلم أنه سبب قتله.
فعن عدي بن حاتم: قلت: يا رسول الله “أرمي الصيد فأجد فيه سهمي من الغد؟” فقال: “إذا علمت أن سهمك قتله، ولم تر فيه أثر سبع فكل”.
- ألا يصل الصيد إلى درجة النتن، فإن الطباع السليمة تستخبث المنتن وتشمئز منه، فضلا عما يتوقع من ضرره.
وفي (صحيح مسلم) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخشني: “إذا رميت سهمك فغاب -أي الصيد- ثلاثة أيام وأدركته فكله ما لم ينتن”.
الخمـر
الخمر هي تلك المادة الكحولية التي تحدث الإسكار.
ومن توضيح الواضح أن نذكر ضررها على الفرد في عقله وجسمه، ودينه ودنياه. أو نبين خطرها على الأسرة من حيث رعايتها والقيام على شؤونها زوجة أو أولادا. أو نشرح تهديدها للجماعات والشعوب في كيانها الروحي والمادي والخلقي.
وبحق ما قاله أحد الباحثين: إن الإنسان لم يصب بضربة أشد من ضربة الخمر، ولو عمل إحصاء عام عمن في مستشفيات العالم من المصابين بالجنون والأمراض العضالة بسبب الخمر، وعمن انتحر أو قتل غيره بسبب الخمر، وعمن يشكو في العالم من آلام عصبية ومعدية ومعوية بسبب الخمر، وعمن أورد نفسه موارد الإفلاس بسبب الخمر، وعمن تجرد من أملاكه بيعا أو غشا بسبب الخمر… لو عمل إحصاء بذلك أو ببعضه لبلغ حدا هائلا نجد كل نصح بإزائه صغيرا.
وقد كان العرب في جاهليتهم مولعين بشربها والمنادمة عليها؛ ظهر ذلك في لغتهم فجعلوا لها نحوا من مائة اسم، وفي شعرهم فوصفوها وأقداحها ومجالسها وأنواعها.
فلما جاء الإسلام أخذهم بمنهج تربوي حكيم، فتدرج معهم في تحريمها؛ فمنعهم أولا من الصلاة وهم سكارى، ثم بين لهم أن إثمها أكبر من نفعها، ثم أنزل سبحانه الآية الجامعة القاطعة في سورة المائدة (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون) سورة المائدة الآيتان:90،91.
وفي هاتين الآيتين أكد الله تحريم الخمر والميسر القمار-تأكيدا بليغا، إذ قرنهما بالأنصاب والأزلام، وجعلهما من عمل الشيطان، وإنما عمله الفحشاء والمنكر. وطلب اجتنابهما وجعل هذا الاجتناب سبيلا إلى الفلاح. وذكر من أضرارهما الاجتماعية، تقطيع الصلاة وإيقاع العداوة والبغضاء ومن أضرارهما الروحية الصد عن الواجبات الدينية من ذكر الله والصلاة. ثم طلب الانتهاء عنهما بأبلغ عبارة (فهل أنتم منتهون).
وكان جواب المؤمنين على هذا البيان الحاسم قد انتهينا يا رب، قد انتهينا يا رب.
وصنع المؤمنون العجب بعد نزول هذه الآية، فكان الرجل في يده الكأس قد شرب منها بعضا وبقي بعض فحين تبلغه الآية ينزع الكأس من فيه ويفرغها على التراب.
وقد آمن كثير من الحكومات بأضرار الخمر على الأفراد والأسر والأوطان، ومنهم من حاولوا أن يمنعوها بقوة القانون والسلطان -كأمريكا- ففشلوا، على حين نجح الإسلام وحده في محاربتها والقضاء عليها.
وقد اختلف رجال الكنيسة في موقف المسيحية من الخمر، واستندوا إلى أن في الإنجيل نصا يقول: قليل من الخمر يصلح المعدة. ولو صح هذا الكلام وكان قليل الخمر يصلح المعدة حقا لوجب الامتناع عن هذا القليل، لأن قليل الخمر إنما يجر إلى كثيرها والكأس الأولى يغري بأخرى وأخرى حتى الإدمان.
هذا على حين كان موقف الإسلام صريحا صارما من الخمر وكل ما يعين على شربها.
كل مسكر خمر
وكان أول ما أعلنه النبي في ذلك أنه لم ينظر إلى المادة التي تتخذ منها الخمر، وإنما نظر إلى الأثر الذي تحدثه وهو الإسكار، فما كان فيه قوة الإسكار فهو الخمر مهما وضع الناس لها من ألقاب وأسماء، ومهما تكن المادة التي صنعت منها -وعلى هذا البيرة وما شابهها حرام.
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشربة تصنع من العسل أو من الذرة والشعير تنبذ حتى تشتد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم فأجاب بجواب جامع: “كل مسكر خمر، وكل خمر حرام”.
وأعلن عمر على الناس من فوق منبر الرسول عليه السلام: الخمر ما خامر العقل.
ما أسكره كثيره فقليله حرام
ثم كان الإسلام حاسما مرة أخرى حين لم ينظر إلى القدر المشروب من الخمر قل أو كثر، فيكفي أن تنزلق قدم الإنسان في هذه السبيل، فيمضي وينحدر، لا يلوي على شيء.
لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ما أسكر فقليله حرام”، “ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام” والفرق: مكيال يسع ستة عشر رطلا.
الاتجار بالخمر
ولم يكتف النبي عليه السلام بتحريم شرب الخمر قليلها وكثيرها، بل حرم الاتجار بها، ولو مع غير المسلمين، فلا يحل لمسلم أن يعمل مستوردا أو مصدرا للخمر، أو صاحب محل لبيع الخمر، أو عاملا في هذا المحل.
ومن أجل ذلك “لعن النبي صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة؛ عاصرها ومعتصرها -أي طالب عصرها- وشاربها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له”.
ولما نزلت آية المائدة السابقة قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله حرم الخمر فمن أدركته هذه الآية ، وعنده منها شيء، فلا يشرب ولا يبع” قال راوي الحديث: فاستقبل الناس بما كان عندهم منها طرق المدينة فسفكوها.
وعلى طريقة الإسلام في سد الذرائع إلى الحرام، حرم على المسلم أن يبيع العنب لمن يعرف أنه سيعصره خمرا. وفي الحديث: “من حبس العنب أيام القطاف، حتى يبيعه من يهودي -أي: ليهودي- أو نصراني أو ممن يتخذه خمرا -أي: ولو كان مسلما- فقد تقحم النار على بصيرة”.
المسلم لا يهدي خمرا
وإذا كان بيع الخمر وأكل ثمنها حراما على المسلم، فإن إهدائها بغير عوض، ولغير مسلم من يهودي أو نصراني أو غيره حرام أيضا؛ فما ينبغي للمسلم أن تكون الخمر هدية منه، ولا هدية إليه، فهو طيب لا يهدى إلا طيبا ولا يقبل إلا طيبا.
وقد روي أن رجلا أراد أن يهدي للنبي عليه الصلاة والسلام رواية خمر، فأخبره النبي أن الله حرمها، فقال الرجل:
أفلا أبيعها ؟
فقال النبي: “إن الذي حرم شربها حرم بيعها”.
فقال الرجل: أفلا أكارم بها اليهود؟
فقال النبي: “إن الذي حرمها حرم أن يكارم بها اليهود”.
فقال الرجل: فكيف أصنع بها؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “شنها على البطحاء”.
مقاطعة مجالس الخمر
وعلى هذه السنة أمر المسلم أن يقاطع مجالس الخمر، ومجالسة شاربيها. فعن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة تدار عليها الخمر”.
إن المسلم مأمور أن يغير المنكر إذا رآه، فإذا لم يستطع أن يزيله، فليزل هو عنه، ولينأ عن موطنه وأهله.
ومما روي عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه كان يجلد شاربي الخمر ومن شهد مجالسهم، وإن لم يشرب معهم. ورووا أنه رفع إليه قوم شربوا الخمر، فأمر بجلدهم، فقيل له: إن فيهم فلانا، وقد كان صائما، فقال: به ابدؤوا. أما سمعتم قول الله تعالى: (وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم) سورة النساء:140.
الخمر داء وليست دواء
بكل هذه النصوص الواضحة كان الإسلام حاسما كل الحسم في محاربة الخمر وإبعاد المسلم عنها، وإقامة الحواجز بينه وبينها، فلم يفتح أي منفذ -وإن ضاق وصغر- لتناولها أو ملابستها.
ولم يبح للمسلم شربها ولو القليل منها، ولا ملابستها ببيع أو شراء أو إهداء أو صناعة، ولا إدخالها في متجره أو في بيته، ولا إحضارها في حفلات الأفراح وغير الأفراح، ولا تقديمها لضيف غير مسلم، ولا أن تدخل في أي طعام أو شراب.
بقي هنا جانب قد يسأل عنه بعض الناس وهو استعمال الخمر كدواء. وهذا ما أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، فقد سأل رجل عن الخمر، فنهاه عنها، فقال الرجل: إنما أصنعها للدواء. قال صلى الله عليه وسلم: “إنه ليس بدواء ولكنه داء” وقال عليه السلام: “إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تتداووا بحرام”.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المسكر: “إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم”.
ولا عجب أن يحرم الإسلام التداوي بالخمر وغيرها من المحرمات، فإن تحريم الشيء -كما قال الإمام ابن القيم- يقتضي تجنبه والبعد عنه بكل طريق، وفي اتخاذه دواء حض على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع.
وقال: وأيضا، فإن في إباحة التداوي به -ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه- ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، وبخاصة إذا عرفت النفوس أنه نافع لها، ومزيل لأسقامها، جالب لشفائها.
وأيضا فإن في هذا الدواء المحرم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء.
وقد تنبه ابن القيم رحمه الله إلى جانب نفسي هام فقال: إن من شرط الشفاء الدواء تلقيه بالقبول، واعتقاد منفعته، وما جعل الله فيه من بركة الشفاء. ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد منفعتها وبركتها، وحسن ظنه بها وتلقيه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيمانا كان أكره لها، وأسوأ اعتقاد فيها، وكان طبعه أكره شيء لها، فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء لا دوا.
ومع هذا فإن للضرورة حكمها في نظر الشريعة، فلو فرض أن الخمر أو ما خلط بها تعينت دواء لمرض يخشى منه على حياة الإنسان بحيث لا يغني عنها دواء آخر -وما أظن ذلك يقع- ووصف ذلك طبيب مسلم ماهر في طبه، غيور على دينه، فإن قواعد الشريعة القائمة على اليسر، ودفع الحرج، لا تمنع من ذلك، على أن يكون في أضيق الحدود الممكنة (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم) سورة الأنعام:145.
المخــدرات
(الخمر ما خامر العقل) كلمة نيرة قالها عمر بن الخطاب من فوق منبر النبي صلى الله عليه وسلم يحدد بها مفهوم الخمر، حتى لا تكثر أسئلة السائلين ولا شبهات المشتبهين. فكل ما لابس العقل وأخرجه عن طبيعته المميزة المدركة الحاكمة فهو خمر حرام حرمه الله ورسوله إلى يوم القيامة.
ومن ذلك تلك المواد التي تعرف باسم “المخدرات” مثل الحشيش والكوكايين والأفيون ونحوها، مما عرف أثرها عند متعاطيها أنها تؤثر في حكم العقل على الأشياء والأحداث، فيرى البعيد قريبا، والقريب بعيدا، ويذهل عن الواقع، ويتخيل ما ليس بواقع، ويسبح في بحر الأحلام والأوهام، وهذا ما يسعى إليه متناولوها حتى ينسوا أنفسهم ودينهم ودنياهم ويهيموا في أودية الخيال.
وهذا غير ما تحدثه من فتور في الجسد، وخدر في الأعصاب، وهبوط في الصحة وفوق ذلك ما تحدثه من خور النفس، وتميع الخلق، وتحلل الإرادة، وضعف الشعور بالواجب، مما يجعل هؤلاء المدمنين لتلك السموم أعضاء غير صالحة في جسم المجتمع.
فضلا عما وراء ذلك كله من إتلاف للمال، وخراب للبيوت، بما ينفق على تلك المواد من أموال طائلة، ربما دفعها المدمن من قوت أولاده، وربما انحرف إلى طريق غير شريف يجلب منه ثمنها.
وإذا ذكرنا أن “التحريم يتبع الخبث والضرر” تبين لنا أن حرمة هذه الخبائث التي ثبت ضررها الصحي والنفسي والخلقي والاجتماعي والاقتصادي مما لا شك فيه.
وعلى هذه الحرمة أجمع فقهاء الإسلام الذين ظهرت في أزمنتهم هذه الخبائث. وفي طليعتهم شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قال: هذه الحشيشة الصلبة حرام سواء سكر منها أم لم يسكر… إنما يتناولها الفجار لما فيها من النشوة والطرب، فهي تجامع الشراب المسكر في ذلك، والخمر توجب الحركة والخصومة، وهذه توجب الفتور والذلة، وفيها مع ذلك من فساد المزاج والعقل، وفتح باب الشهوة، وما توجبه من الدياثة (فقدان الغيرة) ما هو من الشراب المسكر. وإنما حدثت في الناس بحدوث التتار. وعلى تناول القليل والكثير منها حد الشرب -ثمانون سوطا أو أربعون-.
ومن ظهر منه أكل الحشيشة فهو بمنزلة من ظهر منه شرب الخمر وشر منه من بعض الوجوه، ويعاقب على ذلك كما يعاقب هذا. قال: “وقاعدة الشريعة أن ما تشتهيه النفوس من المحرمات كالخمر والزنا ففيه الحد، وما لا تشتهيه كالميتة ففيه التعزير؛ والحشيشة مما يشتهيها آكلوها، ويمتنعون عن تركها، ونصوص التحريم في الكتاب والسنة على من يتناولها كما يتناول غير ذلك”.
كل ما يضر فأكله أو شربه حرام
وهنا قاعدة عامة مقررة في شريعة الإسلام، وهي أنه لا يحل للمسلم أن يتناول من الأطعمة أو الأشربة شيئا يقتله بسرعة أو ببطء -كالسهم بأنواعه- أو يضره ويؤذيه، ولا أن يكثر من طعام أو شراب يمرض الإكثار منه، فإن المسلم ليس ملك نفسه، وإنما هو ملك دينه وأمته. وحياته وصحته وماله، ونعم الله كلها عليه وديعة عنده، ولا يحل له التفريط فيها. قال تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) سورة النساء:29. وقال: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) سورة البقرة:195.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”.
ووفقا لهذا المبدأ نقول: إن تناول التبغ (الدخان) ما دام قد ثبت أنه يضر بمتناوله فهو حرام. وخاصة إذا قرر ذلك طبيب مختص بالنسبة لشخص معين. ولو لم يثبت ضرره الصحي لكان إضاعة للمال فيما لا ينفع في الدين أو الدنيا وقد “نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن إضاعة المال”. ويتأكد النهي إذا كان محتاجا إلى ما ينفقه من مال لنفسه أو عياله.