الفصل الثّاني: ظاهرة الوحي والمعنى المراد والرّدّ على بعض الشّبهات حولها
لم تكن ظاهرة الوحي محصورة في النبي صلى الله عليه وسلم، بل عرفها الأقوام السابقين مع أنبيائهم.
فلم يكن محمد بِدعاً من المرسلين، ولا كان أول نبيّ خاطب الناس باسم الوخي وحدّثهم بحديث السماء، فمن لدن نوح عليه السلام تتابع أفراد مصطفون أخيار ينطقون عن الله ((إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَىٰ وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ ۚ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا)).
وقد وضّح النبي ذلك لقومه في غير موضع من القرآن ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ)).
((قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاءِ نَفْسِي ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ)).
((وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّ)).
((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ)).
قصة بدء الوحي:
اعترف أهل التاريخ، وذكر أهل السِيَر عن سيرة نبي الله محمد بن عبد الله حكمة أن تكون أول أربعين سنة من حياته الشريفة لم يُعرف عنه فيها إلّا الصلاح ورجاحة الرأي بشهادة الجميع، الأعداء قبل الأصدقاء.
وعلى رأس جبل في ظلمة الليل، هناك نزل عليه الوحي، فنزل يركض وقال لزوجته: (لقد خِفت على نفسي، فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبدا)، فأخذته عند ورقة بن نوفل، وكان من الموّحدين، فسمع منه، ثم قال: قدوس قدوس هذا الناموس الذي نزل على موسى، ليتني كنت شاباً حين يخرجك قومك.. وإن يُدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً.
ثم كان فتور الوحي لحكمة يعلمها الله، ثم تتابع نزول القرآن، فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا.
ثم كان تنجيم القرآن، تدرج تربية المسلمين – تثبيت القرآن عند الصحابة ليسهل حفظه تطبيقه.
مراعاة الحوادث – تثبيت فؤاد النبي وأفئدة المؤمنين.
أول ما نزل ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))، آخر ما نزل ((وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)).
ولذلك حرص القرآن على التّصريح أنّه وحي ((إن هو إلّا وحيٌ يوحى))، ((إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ)).
والمعنى اللّغوي لكلمة وحي وإيحاء:
- الإلهام الفطري للإنسان ((وأوحينا إلى أمِّ موسى أن أرضعيه))، ((وإذ أوحيت إلى الحواريّين أن آمنوا بي)).
- الإلهام الغريزي للحيوان ((وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي)).
- الرّمز والإيماء ((فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبّحوا)).
- الإيماء بالجوارح.
نظرت إليها نظرةً فتحيّرت دقائق فكري في بديع صفاتها
فأوحى إليها الطّرف أنّي أحبّها فأثّر ذاك الوحي في وجناتها
- وساوس الشّيطان وتزيينه ((وإنّ الشّياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم)).
- ويقابله إلهام الملائكة ((إذ يوحي ربّك إلى الملائكة أنّي معكم)).
والمعنى الّذي نحن بصدده هو تكليف الله تعالى الملك بتبليغ النّبي الآيات، وكان يأتي الوحي للنبيّ الكريم بثلاث صور:
- إلقاء المعنى في قلب النّبي أو نفثه في روحه.
- تكليم النّبي من وراء حجاب.
- لقاء ملك الوحي بصورته الملكيّة أو صورة رجل.
وليس من ذلك أدنى علاقة بالإلهام أو الحدس الباطنيّ أو الشعور الدّاخليّ أو اللاشعور، بل ثبت عن النّبي أنّه كان يأتيه أحياناً كما قال: “مثل صلصلة الجرس وهو أشَدَّهُ عليَّ فيُفصَمَ عنّي وقد وعيت ما قال وأحياناً يتمثّل لي الملك رجلاً فيكلّمني فأعي ما يقول”.
والأولى كانت أثقل على النّبي كما قال الله تعالى: ((إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً)).
وكان كما تقول السّيّدة عائشة: “ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشّديد البرد، فيفصم عنه وإنّ جبينه ليتفصّد عرقاً”، وبلغت أن “راحلته تبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها”، ومرّة “كانت فخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتّى كادت ترضّها”.
ومما يؤكّد على حقيقة الوحي:
أنّ النّبيّ كان يستشعر ضعفه وافتقاره إلى الله تعالى كدعائه: (اللّهم يا مصرّف القلوب صرّف قلبي على طاعتك)، وأنّ العديد من آيات القرآن كانت تتصدّر بقوله تعالى: ((قل)) فهو مبلّغ للوحي.
والآيات الّتي عاتبت النّبي الأكرم صلّى الله عليه وسلّم: ((عفا الله عنك لم أذنت لهم))، ((ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض))، ((لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم))، ((عبس وتولّى أن جاءه الأعمى))، ومن أشدّها: ((ولولا أن ثبتّناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيراً))، ((ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثمّ لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين)).
وأنّ النّبي نهى عن كتابة وتدوين غير القرآن حتّى لا يختلط به شيء.
وميّز بين شخصيّته النّبويّة المعتمدة على الوحي واجتهاداته الدّنيويّة الشّخصيّة المعتمدة على خبراته الدّنيويّة كقصّة تأبير النّحل (أنتم أعلم بأمور دنياكم) وحادثة (بني أُبيرق) الّذين تنزّل قوله تعالى فيهم: ((ولا تكن للخائنين خصيماً))، وتأخّر الوحي كحادثة الإفك وقبلها حين أبطأ الوحي بأوّل العهد.
ولقد حاول العرب قديماً والمستشرقون حديثاً تفسير ظاهرة الوحي وفق رغباتهم تعامياً عن الحقّ فاعتبروه أضغاث أحلام أو افتراء أو شعراً وقد صوّر القرآن هذا التّضارب أدقّ التّصوير: ((بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر)).
غير أنّنا عرفنا من خلال السّيرة المطهّرة الفرق بين رؤى النّائم الّتي كان يراها رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، كما تُحَدِّثُنا السّيّدة عائشة رضي الله عنها: (أوّل ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الوحي الرؤيا الصّالحة في النّوم فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت قبل فلق الصّبح، ثمّ حُبِّبَ إليه الخلاء وكان يخلو في غار حراء).
والفرق واضح بين الهدوء النّفسي الّذي يرافق الرّؤيا وبين الجهد والرّعب الّذي كان يرافق الوحي أحياناً كما في أوّل نزول له حين كان في الغار، فيرتجف فؤاد النّبي حقّاً ويعود لبيته مسرعاً يقول: (زمّلوني زمّلوني)، حيث اعتراه الرّعب لنزول الوحي عليه فجأة لا بانتظارٍ وترقّب، كما قال الله تعالى: ((وما كنت ترجوا أن يُلقى إليك الكتاب إلّا رحمةً من ربّك))، ((وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا)).
هذا وإنّ رجفة فؤاد النّبي وعدم مرافقتها لبرود الأطراف واصطكاك الأسنان بل على العكس ترتفع حرارته ويتفصّد جبينه عرقاً ويثقل جسمه أكبر دليل أنّها ليست حالات ذهنيّة ولا نوبات عصبيّة أو أعراض مرضيّة تصيبه، ونعتوه بالجنون كقولهم: ((معلَّمٌ مجنون))، ((إنّ رسولكم الّذي أُرسل إليكم لمجنون))، وردّ الله تعالى عليهم: ((ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربّك بمجنون))، وسيرة النّبي أكبر دليل، وتارةً يصفونها بافتراءات المختلق أو تخرّصات الكذوب، والرّدّ عليها جاء من العرب أنفسهم، فلم يعرفوا عنه كذباً قطّ فيما سبق ولو افترضناه فكيف يعرف عن المستقبل والغيب فمن أين له كلّ هذه المعارف، وكان الرّدّ القرآني: ((أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون))، ((قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عُمُراً من قبله أفلا تعقلون))، ((تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا))، غير ما أخبر به عن أحداث ستحدث وحدثت:
- كانتصار الرّوم: ((وهم من بعد غَلَبِهِم سيغلبون في بضع سنين)).
- وهزيمة المشركين يوم بدر: ((سيهزم الجمع ويولّون الدّبر)).
- وعمرة القضاء: ((لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين)).
- وأعجب العجب آية العصمة من القتل: ((يا أيّها الرّسول بلّغ ما أُنزل إليك من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته والله يعصمك من النّاس))، فصرف النّبي حرّاسه وقال: (انصرفوا فقد عصمني الله)، كما في بدر وأُحد وحُنَين وكما في قصّة الرّجل الّذي استلّ سيفه يوم ذات الرّقاع.
ومنهم من افترض أي يكون بشراً علّمه، فافترضوا غلاماً نصرانيّاً كان بمكّة يصنع السّيوف، فقال: ((لسانُ الّذين يُلحدون إليه أعجميّ وهذا لسانٌ عربيٌّ مبين))، ثمّ افترضوها من مجهول، فقالوا: ((أساطير الأوّلين اكتتبها فهي تُملى عليه بكرةً وأصيلاً))، ثمّ ردّوها إلى بُحيرى الراّهب الّذي التقاه النّبي وعمره تسع سنين أو ورقة بن نوفل الّذي لقيه مرّة ثمّ ما لبث أن توفّي، ولم يكن النّبي يلق الرجلين في خفاء بل معه أُناس، ثمّ افترضوا أن يكون قد التقى برجال يهود أو نصارى ليردّ القرآن على هذه المزاعم: ((وما كان هذا القرآن أن يُفترى من دون الله ولكن تصديق الّذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من ربّ العالمين))، ثمّ افترضوه شاعراً فقالوا: ((شاعرٌ نتربّص به ريب المنون))، غير أنّهم فنّدوا ذلك بأنفسهم، فقد عرفوا الشّعر وما هذا بشعر، بل قالوا: (إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أعلاه لمفرق وإنّ أسفله لمثمر وما هو بقول بشر)، كما تحدّاهم القرآن أن يأتوا بمثله: ((أم يقولون افتراه بل لا يؤمنون فليأتوا بحديثٍ مثله إن كانوا صادقين))، ثمّ تحدّاهم بعشر سُوَر: ((قل فأتوا بعشر سُوَرٍ مثله مفتريات))، ثمّ تحدّاهم بسورة: ((فأتوا بسورة من مثله))، ثمّ أعلنها لهم صراحة: ((قل لئن اجتمعت الإنس والجنّ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعضٍ ظهيراً)).