من معاني الهجرة
حق للهجرة ان تكون بداية التأريخ لأمة عظيمة كأمة الإسلام حيث تعتبر الهجرة منعطفاً كبيراً ومحظة فاصلة في تاريخ الأمة وفي حياة أفرادها.
فلم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يرّوح فيها الإنسان عن نفسه، لكنها ترك ومغادرة للوطن وللأهل وصلات القربى والمودة وأسباب الرزق وذلك كله في سبيل الله.
الهجرة:
ترك واستقبال، فأنت تترك ما تعرفه وتألفه وتستقبل ما هو مجهول لديك.
اختيار تبعاته ثِقَال، ولكن بها فقط تُفتح الأقفال، فالهجرة تحقق فتحاً روحياً وإيمانياً وأخلاقياً بل ورزقاً مادياً أكيداً.
في الهجرة:
هجر وهجير، لا هجرة دون هجر، والهجير شدة حرة الظهيرة.
تخل ومكايدة، قال تعالى: (فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ).
سير نحو الوجه مع عدم الالتفات حتى الوصول.
في الهجرة:
طريق طويل، فنحن في سفر دائم، وهجرة مستمرة، (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية).
وهدف جميل.
وثقة عمياء بمن لم تخرج إلا له.
فالهجرة ليست حدثاً عابراً نستذكره لأخذ العِظات والعبر، بل محطة إيمانية ومدرسة سلوكية، يحتم على كل مسلم أن يرتقي فيها كل عام، وتجدد لها النية في كل مناسبة، ويستلهم منها خطة عامه الجديد وأهدافه التي يريد.
من دروس الهجرة:
- أنه لا عذر لمن يتقاعس عن الالتزام بحجة أن الظروف صعبة ولا تسمح، فلهذه الظروف وهذه الحالات شُرعت الهجرة.
بيعة ثم هجرة:
إن الدارس للسيرة النبوية والمتتبع لمنهج رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبيّن التدرّج والبناء المحكم الذي عمل عليه رسول الله بوحي من الله، قال تعالى: (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي).
فرأينا كيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث 10 سنين في مكة يدعو أهلها، ويربيّ من أسلم من أبنائها تربية الوالد الشفوق حتى صنع منهم رجالاً كُمّل، بعدها انتقل لمرحلة أعلى وامتحان أصعب.
كلنا يعلم كيف سبقت الهجرة حادثة عظيمة وهي البيعة، وهي ما نجح فيه المهاجرون ثم بايع عليه الانصار، ونستذكر بنود البيعة الأولى: يقول أحد الصحابة رضوان الله عليهم: (بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الأُولَى عَلَى: “أَنْ لا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا نَسْرِق، وَلا نَزْنِيَ، وَلا نَقْتُلَ أَوْلادَنَا، وَلا نَأْتِيهِ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا، وَلا نَعْصِهِ فِي مَعْرُوفٍ، فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأُخِذْتُمْ بِحَدِّهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَذَّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ).
ثم غاب الأنصار سنة ليطبقوا قبل أن يعودوا العام الذي بعده، ليستكمل معهم مشوار بناء الإيمان، وكانت بنود البيعة الثانية: (تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون في الله خوفة لائم، وعلى ان تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم ولكم الجنة).
فلما استكمل البناء واستوثق منهم، هاجر إليهم، وترك الكل (الوطن والأهل والذكريات) واختارهم على من سواهم، وأعلى ذكرهم، وخلّد فضلهم، وجعلهم قدوة نقتدي بهم إلى يوم الدين، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).
يوم الهجرة يوم عيد:
جاء في كتاب السير: “وعند وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أخذ أهل المدينة يقولون: جاء نبي الله، جاء نبي الله”.
فكان يوم فرح وابتهاج لم ترَ المدينة يوماً مثله، ولبس الناس أحسن ملابسهم كأنهم في يوم عيد، وقد كان حقا يوم عيد.
لذللك خرج أهل المدينة يهللون في فرح وابتهاج: “يا رسول الله يا محمد يا رسول الله”، هو يوم عيد حقا لمن أثبت صدق إيمانه وعظيم بذله وفدائه كما فعل أصحاب النبي عليهم رضوان الله عليهم أجمعين، وإذا أردنا ان تستقرأ صفاتهم التي بها نالوا تلك الدرجة الرفيعة وذلك الشرف العظيم، نجد في القرآن:
من صفات المهجرين:
- الإيمان: قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).
- الإخلاص: قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
- الصدق: قال تعالى: (أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
- ينصرون الله ورسوله: (وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ).
- الصبر: قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
- التوكل: قال تعالى: (وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
- الرجاء: قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ).
- التضحية: قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
- الفوز: قال تعالى: (وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ).
- السبق والقدوة: قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).
الهجرة ثمرة لا طفرة:
قد يظن العوام من الناس أن الهجرة كانت هروباً من الواقع، أو تخليّ عن المسؤوليات، أو لهثاً وراء الراحة والغنيمة بالبعد عن الناس، فيستغلون الحادثة لتبرير عجزهم عن مواجهة مشاق العمل والدعوة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على آذاهم خير من الذي لا يخالط ولا يصبر على آذاهم).
لم تكن الهجرة نزهة أو رحلة يروّح فيها الإنسان عن نفسه، لكنها مغادرة الوطن والأهل ووشائج القربى وصلاة المودة وأسباب الرزق والتخلي عن كل ذلك.
لم تكن الهجرة وليدة اللحظة بل هي نتاج تربية استمرت 13 عاماً حافلة بالمعاناة، فالمتأمل والمتتبع للخطاب القرآني والمنهج الرباني، يرى كيف كان التدرج مماشياً لتصاعد الأحداث، فمن تدرج الأيات:
- نزول أولا ما جاء في سورة الزمر: قال تعالى: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ ۗ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ ۗ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ).
فالخطاب لأهل الإيمان من العباد المقربين (وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ) والأمر الأساس والسر الحقيقي، ثم هي للذين أحسنوا فرج وبشرى.
- ثم نزل سورة الكهف وفيها قصة الفتية الذين آمنوا بربهم وهاجروا لأجله، فكانت عِظة ومدرسة ومنهجاً.
- ثم من سورة النحل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).
- وفي آخر السورة، قال تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِن بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ).
بهذا التدرج نزل القرآن وبهذه الحكمة فُرضت الأحكام ((ظُلموا، فُتنوا، أُخرجوا))، وبهذا التسليم والإيمان تعامل الصحابة الكرام.
ثم توعد المتخلفين عن الهجرة بسوء المصير حين نزل قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
فلما بلغت حمزة بن جندب وهو بمكة، قال لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين، وإني لأهتدي الطريق، وإني لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجهاً إلى المدينة، وكان شيخاً كبيراً فمات بالطريق، ولما أدركه الموت جعل يصفف بنيه على شماله، ويقول: اللهم هذه لك وهذه لرسولك، أبايعك على ما بايع عليه رسولك.
التعرّب بعد الهجرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا الكبائر السبع، ثم سكت، ثم قال: ألا تسألوني عنهن ؟ الشرك بالله …… وقال التعرّب بعد الهجرة).
العرب:
لغة: الأرض الداكنة المغطاة بالكلأ، وقيل الماء الكثير الصافي.
أما الأعراب فهم الذين يهربون إلى تساقط الغيث ومكان الماء.
الإعرابي: من رضي بالجهل واقتنع بما لديه من عادات بعيداً عما ندب إليه الإسلام.
ومن صور الهجرة ترك دارا الجهل والضلال إلى دار المعرفة والهداية، أي الهجرة إلى المعلم والمرشد ليأوي إليه ويأخذ حظه من علوم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإذا ما هاجر المسلم إلى مورد العلم والتزكية والحكمة وحظي بكنز نفيس وجب عليه التمسك والمحافظة عليه، وخلاف ذلك اعتبره النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم (التعرّب بعد الهجرة) نوع من أنواع الكبائر والعياذ بالله.
الهجرة أن تكون مع الجماعة المؤمنة وتنتمي إليها وتنعم بقربها، فكانت وفارقة (الولاية)، قال تعالى: ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ)، فإذا اختار المرء البقاء بعيدا عن المسلمين فهم في حلّ من الواجبات.
ومما جاء من كلام المربّين ووصاياهم:
(السفر في الوطن) وتحمل عدة مستويات من المعني، ففيها:
- السير في الأرض للتفكر كما في قوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)، ولذلك مدح الله من عباده: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ)، (تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ).
- السفر للبحث عن مرشد، وهو سرّ من أسرار الهجرة وأهدافها.
- السفر من عالم الخلق إلى عالم الحق، أي من حال إلى حال، وهو سفر دائم مستمر حتى الموت.
تعلّمنا من الهجرة:
- الإعداد قبل الإمداد، وأن مقام النبوة العظيم لم يمنع من الإعداد السليم.
- ليالي الجوع في شعب أبي طالب أنتجت أيام الهداية في العقبة، فلولا ضيق الحصار ما انتشرت دعوة الإسلام في الإمصار.
- أن عاماً قضاه مصعب في المدينة يدعو بإخلاص، كان فيه التمهيد والخلاص، فكم يضيع الدعاة أعمارهم.
- أن أروع العطايا أن يكون بيتك كله من أهل الله، كذلك كان بيت الصدّيق، أب يرافق الحبيب، وأم تتعهد العيال، وابن يأتي بالأخبار، وبنت تحمل الطعام للغار.
- أن الدعوة بلا تخطيط تُستأصل، وأن بناء الدول والحضارات يختلف عن الخطب والعِظات.
- أن الدعوة تحتاج للفدائي الشاب كعلي، وللمهاجر في العلن كعمر، ولصاحب السهام كصهيب، فدعوة بلا شوكة مهيضة الجناح وإن كانت بالملايين.
- لا غنى لك عن صاحب كأبي بكر، وإن كُنت نبياً.
- العدو يمعن في الحصار والله يهيئ لنبيه أرحب دار وقرار.
- تجرد الداعية للرسالة وتخلّصه من الطمع، فالنبي لم يقبل الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن، وبقي دَيناً في ذمته، وكذلك لم يقبل من سراقة ما عرضه عليه من يأخذ من قطيعه، فصاحب الدعوة لا ينبغي أن يكون عالة على أحد لأنه مصدر العطاء، وإذا زهد فيما أيدي الناس أحبه الله وأحبه الناس، فلن ينجح داعية مأسور لجيوب الآخرين.