الدرس الخامس:
الإمام الشافعي
من مصادر التشريع: العُرف
لغةً هو: العادة، أي اطراء سلوك الناس في مسألة معينة على نحو خاص، بحيث تنشأ منه قاعدة قانونية غير مسنونة، فتصبح به قانوناً أو إلزاماً، وهو ما تعارف عليه أهل العقول السليمة، وليس في الشرع ما نخالفه.
ويمكن تقسيمه إلى:
- عُرف عام، وهو ما تعارف عليه أهل الأقاليم الإسلامية في عصر من العصور.
- عُرف خاص، وهو ما يتعارف عليه أهل مدينة وبلد وقرية.
أدلته:
استدل أهل العلم بقوله تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)).
ومن السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيّء).
ويختلف عن الإجماع:
أن الإجماع خاص بالمجتهدين، وتحتاج جهداً وضبطاً وتحرّياً.
أما العرف فهو يشمل الخواص والعوام ولا يحتاج جهداً كثير ولا ضبط.
ومن أمثلة الأحكام الشرعية التي اعتمدت على العرف: جواز أخذ الأجرة على إمامة المسجد، وتعليم القرآن والآذان.
ومن أمثلة العرف القولي: إذا حلف رجل أن لا يأكل لحماً فإنه لا يحنث بأكل السمك، أو حلف أن لا يدخل بيتاً فلا يحنث إذا دخل المسجد.
وهناك تعريفات العرفية كالزوجة إذا ادّعت على زوجها بعد سنين أنه لم يُطعمها ولم يكسها ولم يُنفق عليها فإن هذه الدعوى لا تُسمع لتكذيب العُرف لها.
الإمام الشافعي
اسمه ونسبه:
هو الإمام أبو عبد الله محمّد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السّائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب بن عبد مناف جدّ جدّ النبي صلّى الله عليه وسلم وشافع هذا صحابيّ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبوه السّائب الّذي أسلم يوم بدر وأمّه يمانيّة من الأزد وكانت من أذكى الخلق فطرة.
قال ابن حجر: المجدّد لأمر الدّين على رأس المائتين.
قال الذّهبي: الإمام، ناصر الحديث، ثقة.
مولده ونشأته:
ولد عالمنا في غزّة من أرض فلسطين سنة خمسين ومائة للهجرة (150 هـ)، وهي سنة وفاة الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وليست غزّة موطن آبائه وإنّما خرج أبوه إدريس إليها في حاجة فولد له محمّد ابنه ومات هناك.
توفّي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين فذهبت به أمّه إلى مكّة وقد آثرت أن تهجر أهلها الأزد في اليمن وتحمل طفلها إلى مكّة مخافة أن يضيع نسبه وحقّه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى وكانت هذه أوّل رحلة في حياة هذا الطّفل الّتي كانت كلها رحلات.
نشأ الشافعيّ في مكّة وعاش فيها مع علوّ وشرف نسبه عيشة اليتامى والفقراء، والنّشأة الفقيرة مع النّسب الرّفيع تجعل النّاشئ يشبُّ على خُلُقٍ قويمٍ ومسلكٍ كريمٍ، فعلو النّسب يجعله يتّجه إلى معالي الأمور والفقر يجعله يشعر بأحاسيس النّاس ودخائل مجتمعهم، وهو أمرٌ ضروريّ لكلّ من يتصدّى لعملٍ يتعلّق بالمجتمع.
وقد بدت عليه علائم النّبوغ والذّكاء الشّديدين منذ الصّغر حتّى إنّ معلّم الكتّاب قَبِلَ دخوله فيه دون أجر مقابل حلوله محلّه في تعليم الصّبيان أثناء غيابه، وكان قويّ الذّاكرة، فقد قيل: إنّه ما نسي شيئاً حفظه أبداً.
طلبه للعلم ومنزلته العلميّة:
حفظ الشّافعيّ القرآن وهو ابن سبع سنين، وجَوَّدَهُ على مقرئ مكّة الكبير إسماعيل بن قسطنطين وأخذ تفسيره من علماء مكّة الّذين ورثوه عن ترجمان القرآن ومفسّره عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، ثم اتّجه بعد حفظه القرآن لحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أولع منذ حداثة سنّه بالعربيّة، فرحل إلى البادية يطلب النّحو، الأدب، الشّعر واللّغة ولازم هذيلاً عشر سنوات يتعلّم كلامها وفنون أدبها وكانت أفصح العرب، فبرز ونبغ في اللّغة العربيّة وهو غلام.
قال الأصمعي –ومكانته في اللّغة مكانته–: “صحّحت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمّد بن إدريس”، وفي مكّة كان يتردّد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد، وكان في ضيق العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الّذي يدوّن عليه فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدّفوف ونحوها ليكتب عليها، وكان يقول: “ما أفلح في العلم إلّا من طلبه في القلّة ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسّر عليّ”.
ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر حين صار أستاذه مسلم بن خالد الزّنجي (إمام أهل مكّة ومفتيها)، يقول له: “أفتِ يا أبا عبدِ الله فقد والله آن لك أن تفتي”، وهكذا اجتمع له في مكّة النّبوغ في اللّغة والفقه والتّفسير، ولكنّ همّته في طلب العلم لم تقف به عند هذا الحدّ، فقد جاهد في سبيله فكان كثير التّرحال، وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدّون الرّحال إلى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس رضي الله عنه، وكان مالك صاحب مجلس في الحرّم النّبويّ لم يطرق الخلفاء بابه ويحسبون حسابه، وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشّافعيّ، فاشتاق لرؤيته وتلهّف لسماع علمه، فحفظ كتابه الموطّأ ورحل إلى يثرب وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول إلى باب مالك إلّا بعد جهد.
نظر إليه مالك وكانت له فراسة، فقال له: “يا محمّد اتّقِ الله واجتنب المعاصي فسيكون لك شأن من الشّأن”، وفي رواية: “إنّ الله عزّ وجلّ ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي”، ثمّ قال له: “إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك”، قال الشّافعيّ: “فقلت أنا قارئ فقرأت عليه الموطّأ حفظاً والكتاب في يدي فكلما تهيّبت مالكاً وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: “يا فتى زد”، حتّى قرأته عليه في أيّام يسيرة، وقال: “إن يكُ أحد يفلح فهذا الغلام”.
وبعد أن قرأ على مالك موطّأه لزمه يتفقّه عليه ويدارسه المسائل الّتي يفتي بها الإمام الجليل وتوطّدت الصّلة بينه وبين شيخه، فكان مالك يقول: “ما أتاني قرشيّ أفهم من هذا الفتى”، وكان الشّافعيّ يقول: “إذا ذكر العلماء فمالك النّجم وما أحد أمنّ عليّ من مالك”، ولكن يبدو أن ملازمته لمالك رضي الله عنه لم تكن بمانعةٍ له من السّفر والاختبارات الشّخصيّة، فكان يقوم بين وقت وآخر برحلات في البلاد الإسلاميّة، كما كان يذهب إلى مكّة يزور أمّه ويستنصح بنصائحها.
وبعد مضي عشر سنوات على إقامته في المدينة توفّي الإمام مالك، وأحسّ الشّافعيّ أنّه نال من العلم أشطراً، فاتّجهت نفسه إلى عمل من أعمال الدّولة يتكسّب به بعد أن رهن داره وعجزت أمّه عن معونته.
فتولّى عملاً بنجران من اليمن وهناك طفق يتردّد على حلقات العلم ويأخذ عن كبار العلماء فيها إلى أن وقع بينه وبين والي اليمن أثناء عمله شيء (بسبب ما أخذه عليه من الظّلم)، فوشى به الوالي إلى الخليفة هارون الرّشيد الّذي أمر بإحضاره إلى بغداد (وفي محنته تفصيل سيأتي)، ولعلّ هذه المحنة الّتي نزلت به قد ساقها الله تعالى إليه ليصرف اهتمامه عن الولاية ونحوها ويعود للاتّجاه بكلّيته نحو العلم وخرج الشّافعيّ رضي الله عنه من التّهمة الّتي نسبت إليه ليطبق علمه وشهرته الآفاق.
فقد أصبح محمّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة الّذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق أستاذاً للشّافعيّ تلقّى عنه فقه أهل الرأي، ولما كان قد أخذ فقه أهل الحديث عن مالك الّذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة، فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما وهو مذهبه القديم المسمّى بكتاب الحجّة (رواه عنه العديد من العلماء وكان الزّعفرانيّ أتقنهم له رواية وأحسنهم له ضبطاً).
ثم قفل عائداً إلى مكّة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر بعد أن مضى عامان على إقامته في بغداد وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكّيّ والتقى به أكبر العلماء في موسم الحجّ، فكانوا يرون فيه عالماً هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل، قال إسحق بن راهويه: “لقيني أحمد بن حنبل بمكّة، فقال: “تعال أريك رجلاً لم ترَ عيناك مثله فأراني الشّافعيّ، قال: فتناظرنا في الحديث فلم أرَ أفقه منه ثمّ تناظرنا في القرآن فلم أرَ اقرأ منه ثمّ تناظرنا في اللّغة وما رأت عيناي مثله قطّ”.
ومكث في مكّة تسع سنوات كاملة، وهو الّذي عهدناه صاحب سفر وترحال، ليصفوَ له الجوّ لاستخراج قواعد الاستنباط بعيداً عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها وألّف كتاب الرّسالة في علم أصول الفقه.
ثمّ ارتحل ثانيةً إلى بغداد وقد سبقته شهرته إليها وتحدّث بذكره المحدّثون والفقهاء ولقّب فيها بناصر الحديث وأخذ ينشر آراءه الفقهيّة الأصوليّة ويجادل على أساسها، وعقد في الجامع الغربيّ في بغداد حلقات العلم والفقه وأمَّه المتعلّمون والعلماء منهم الممتحن ومنهم المستمع ومنهم المتعدّ بمذهبه السّاخر بهذا المتفقّه الجديد على زعمه، فما يكادون يجلسون إليه ويستمعون له حتى يرجعوا عن قولهم ويتركوا ما كانوا فيه ويتّبعوه.
وما زال الشّافعي يصول ويجول ويأتي كلّ يوم بجديد من فهم كلام الله وفقه حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى حمل العلماء على الإقرار بعلمه وظهر أمره بين النّاس وانفكّت حلقات المخالفين حتّى إنَّ أحدهم قال: “قدم الشّافعي بغداد وفي الجامع الغربيّ عشرون حلقة لأصحاب الرّأي، فلمّا كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلّا ثلاث حلق أو أربع”، وفي هذه المقدمة الّتي دامت عامين أعلن رضي الله عنه كتبه وقد أنضجها الدّراسة والمراجعة ونشرها بين صحابته.
وتكرّرت رحلات الشّافعيّ بين مكّة وبغداد وكانت خاتمة رحلاته إلى مصر الّتي كان الدّافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسّياسة وذلك بناءً على دعوة والي مصر له وانتهى به المطاف هناك وأملى مذهبه الجديد في كتابه (المبسوط) الّذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب الأمر وأعاد النّظر في آرائه وكتبه ومؤلّفاته، فجدّد بعضها ونسخ بكتابه المصريّ كتابه البغداديّ (المذهب الجديد هو المعتمد وعليه العمل)، إلّا أنّ هناك مسائل معيّنة قد اختارها فقهاء المذهب من القديم ورجّحوا الإفتاء بها وتركوا الجديد فيها ولقد أحصاها بعضهم بأربع عشرة مسألة وبعضهم باثنتين وعشرين مسألة وهي منثورةٌ في كتب المذهب)، وقال رضي الله عنه: “لا أجعل في حلّ من روى عنّي كتابي البغداديّ”.
وكان النّاس في مصر على مذهبِ الإمام مالك، فقدّموا الشّافعيّ واستمعوا إليه وافتتنوا به، وقصده كثيرون من الشّام واليمن والعراق وسائر الأقطار للتفقّه عليه.
وهكذا توالت الشّهادات بمكانة الشّافعيّ من العلم في عصره وأجمع شيوخه وقرناؤه وتلاميذه على أنّه كان علماً بين العلماء لا يجارى ولئن تجاوزنا هذه الشّهادات لنجدنّ شهادة (أقوم دليلاً) هي ما تركه من آثار من أقوال مأثورة أو فتاوى منثورة أو رسائل كتبها أو كتب أملاها.
وكان مجلسه للعلم جامعاً للنّظر في عدد من العلوم، قال الرّبيع بن سليمان: “كان الشّافعيّ رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلّى الصّبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشّمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنّظر، فإذا ارتفع الضحى تفرّقوا وجاء أهل العربيّة والعروض والنّحو والشّعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النّهار”.
لقد بوركت نبوءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الشّافعيّ حين قال: (اللّهم اهدِ قريشاً فإنّ عالمها يملأ طباق الأرضِ علماً).
العوامل الّتي هيأته للنّبوغ العلميّ:
لقد آتى الله الشّافعيّ حظّاً من المواهب يجعله في الذّروة الأولى من قادة الفكر وزعماء الآراء، فقد كان قويّاً في كلّ قواه العقليّة ممّا جعل تلميذه بشر المريسيّ يقول: “مع الشّافعيّ نصف عقل أهل الدّنيا”، وكان حاضر البديهة، عميق الفكرة، بعيد المدى في الفهم، فكانت دراسته طلباً للكلّيّات والنّظريّات العامّة.
وكان قويّ البيان واضح التّعبير أوتي مع فصاحة لسانه وبلاغة بيانه صوتاً عميق التّأثير يعبّر بنبراته وقد سمّاه ابن راهويه: (خطيب العلماء).
وكان نافذ البصيرة في نفوس النّاس، قويّ الفراسة، كشيخه مالك في معرفة أحوال الرّجال وما تطيقه نفوسهم وكان هذا سبباً في أن التفّ حوله أكبر عددٍ من الصّحاب والتّلاميذ وكان صافي النّفس من أدران الدّنيا وشوائبها لذلك كان مخلصاً في طلب الحقّ والمعرفة، يطلب العلم لله ويتّجه في طلبه إلى الطّريق المستقيم فإذا اصطدم إخلاصه مع ما يألفه النّاس من آراءٍ أعلن آراءه بكل جرأة وقوّة وقد بلغ من زهده في جاه العلم وإخلاصه لطلب الحقّ أنّه كان يقول: “وددت أنّ النّاس تعلّموا هذا العلم لم ينسب إليّ شيء منه فأوجر عليه ولا يحمدوني”، وما كان يغضب في جدال ولا يستطيل بحدّة لسان في نزل لأنّه يبغي الحقّ في جدله، يقول رضي الله عنه: “ما ناظرت أحداً قطّ على الغلبة، وددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحقّ على يديه”، ولقد أكسبه الإخلاص ذكاء قلب ونبل غرض وتباعداً عن الدّنايا.
وكان شديد التّشبّث بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول الرّبيع: سمعت الشّافعيّ يقول: “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمهما قلتُ من قول أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قولي” وجعل يردّد هذا الكلام.
تلقّى الشّافعيّ الفقه والحديث على شيوخ تباعدت أمكنتهم وتخالفت مناهجهم، فجمع فقه أكثر المذاهب الّتي كانت في عصره (وقد روى عن كثير من المشايخ أشهرهم تسعة عشر: خمسة مكّيّة وستة مدنيّة وأربعة يمانيّة وأربعة عراقيّة).
وتلقّى فقه مالك عليه، وتلقّى فقه الأوزاعيّ عن صاحبه عمر بن أبي سلمة من أهل اليمن، وتلقّى فقه اللّيث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسّان، ثمّ تلقّى فقه أبي حنيفة عن محمّد بن الحسن فقيه العراق وبذلك يكون قد برع في مدرسة الحديث في المدينة ومدرسة الرّأي في العراق، وكان ثمّة مدرسة ثالثة تعنى بتفسير القرآن وهي مدرسة مكّة الّتي اتّخذها ابن عبّاس رضي الله عنهما مقاماً له وقد جعل الشّافعيّ ابن عبّاس مثله الكامل وترسّم خطاه وسار في مثل سبيله.
وانساغ كلّ ذلك العلم الكثير في نفس الشّافعيّ، فكان منه ذلك المزيج الفقهيّ المحكم الّذي تلاقت فيه كل النّزعات منسجمة متعادلة متآلفة النّغم وتولّدت منه تلك المعاني الكلّيّة فقدّمها للنّاس في بيان رائع وقول محكم.
لمحة عن عبادته وأخلاقه:
كان رضي الله عنه كثير العبادة، فكان يقسّم اللّيل إلى ثلاثة أقسام: ثلث للعلم وثلث للنّوم وثلث للعبادة، وكان يقف بين يدي ربّه فيصلّي ويقرأ وعيناه تفيضان بدمعٍ غزيرٍ خشيةَ التّقصير، وقد كان رضي الله عنه يرى نفسه لشدّة تواضعه من أهل المعاصي.
وفي ذلك يقول:
أحبّ الصّالحين ولست منهم لعلّي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من بضاعته المعاصي وإن كنّا جميعاً في البضاعة
مرضه ووفاته:
كان رضي الله عنه كثير الأوجاع والأسقام وكان يشكو البواسير خاصّة ولقد بلغت منه في أواخر أيّامه مبلغاً عظيماً، فكان ربّما ركب فسال الدّم من عقبيه وكان لا يرح الطّست تحته وفيه لبدة محشوّة يقطر فيه دمه، وما لقي أحد من السّقم مثل ما لقي ولكنّ هذا لم يكن ليصرفه عن الدّروس والأبحاث والمطالعات وليس هذا غريباً على مثله ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال عندما سئل عن أشدّ النّاس بلاءً: (الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل).
ولمّا كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه المزنيّ، فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدّنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً ولكأس المنيّة شارباً وعلى الله عزً وجلً وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنّة فأهنّئها أم إلى النّار فأعزّيها، ثمّ بكى وأنشأ يقول:
ولمّا قسا قلبي وضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلّما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربّي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود وتعفو منة وتكرّما
وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة انتقلت روحه الطّاهرة إلى ربّها عن أربع وخمسين سنة.
وفي عصر اليوم التّالي خرجت مئات الألوف تنقل الشّافعيّ إلى مثواه الأخير في القرافة بمصر، وذهل النّاس بوفاة الشّافعيّ وخيّمت الكآبة على وجوه العلماء وهيضت أجنحة تلاميذه وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الرّائع، وغاب نجم من النّجوم الّتي سطعت في سماء البشريّة فأضاءت المشرق والمغرب.
رحم الله الشّافعيّ ورضي عنه وأكرم مثواه، فقد كان كما قال عنه أحمد بن حنبل رضي الله عنه: “كان الشّافعيّ كالشّمس للدّنيا وكالعافية للبدن فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض”.