• تسجيل الدخول
سبيلي
  • الرئيسيّة
  • علوم شرعيّة
      • علوم القرآن الكريم
      • علوم السّيرة والسّنّة المطهّرة
      • علوم الفقه الإسلاميّ
      • تراجم الرّجال
      • علوم السّلوك
      • علوم إضافيّة
  • علم نفس
  • وسائل
      • مكتبة البيت السعيد
      • مكتبة الطفل المسلم
      • دروس جاهزة
      • دروس صوتية
      • أدعية
      • آيات
      • أناشيد
      • أناشيد – كلمات
      • مسرحيات
      • مسابقات
  • مقالات
  • Click to open the search input field Click to open the search input field ابحث
  • Menu Menu

مصادر الفقه الإسلامي وأهم رجَالاته

الفهرس

الدرس الأول: مقدمة عامة في الفقه الإسلامي

الدرس الثاني: تعريف مصادر التشريع الإسلامي

الدرس الثالث: الإمام مالك بن أنس – إمام دار الهجرة
من مصادر التشريع: الإجماع والقياس

الدرس الرابع: الإمام أبو حنيفة – الإمام الأعظم

الدرس الخامس: الإمام الشافعي
من مصادر التشريع: العُرف

الدرس السادس: الإمام أحمد بن حنبل
من مصادر التشريع: سدّ الذرائع

الدرس السابع: الإمام الأوزاعي – فقيه الشام والأندلس
من مصادر التشريع: شرع من قبلنا

الدرس الثامن: الإمام الليث بن سعد – إمام مصر وفقيها

الدرس التاسع: المذهب الظاهري
من مصادر التشريع: الاستصحاب

للتحميل

الدرس الأول:

مقدمة عامة في الفقه الإسلامي 

  • تعريف الفقه لغةً واصطلاحاً
  • الغرض منه
  • فضله
  • الأحكام الشرعية
  • مصادر الفقه:
  • القرآن الكريم
  • السنة المطهّرة
  • فعل الصحابة
  • الاجتهاد
  • القياس
  • الإجماع
  • تراجم وسير علماء اجتهدوا بالفقه وبرعوا فيه:
  • الإمام مالك بن أنس – إمام دار الهجرة
  • الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان
  • الإمام الشافعي
  • الإمام أحمد بن حنبل
  • الإمام الأوزاعي – فقيه بلاد الشام ولبنان
  • الإمام الليث بن سعد – فقيه مصر واليمن
  • الإمام محمد بن الحسن

الفقه لغةً: الفَهْم، يُقال فقه الرجل: أي فَهِم

وفي اصطلاح الفقهاء: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسبة من أدلتها التفصيلّية.

الغرض منه: معرفة علاقة الإنسان بربه (فقه العبادات) ثم علاقته بالمخلوقات (فقه المعاملات).

جاء في فضله: قال تعالى: ((فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ))، وقال صلى الله عليه وسلم: (من يردِ الله به خيراً يفقهّهُ في الدين ويلّهمه رشده).

ويقول الإمام الشافعي رحمه الله: “من تعلم القرآن، عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه، نبل قدره. ومن كتب الحديث، قويت حجته، ومن نظر في اللغة، رقّ طبعه، ومن نظر في الحساب، جَزُل رأيه. ومن لم يصن نفسه، لم ينفعه علمه”.

وعليه تم استنتاج الأحكام الشرعية التكليفية، فكانت:

  • الفرض، الركن، الواجب: وهو ما يُطلب فعله ويُثاب عليه، ويُحرم تركه ويُعاقب عليه.
  • المندوب، السنة: وهو ما يُطلب فعله ويُثاب عليه، ولا يُحرم تركه ولا يُعاقب عليه.
  • الحرام: وهو ما يُطلب تركه ويُثاب على تركه، ويُحرم فعله ويُعاقب عليه.
  • المكروه: وهو ما يُطلب تركه ويُثاب على تركه، ولا يُحرم فعله ولا يُعاقب عليه.
  • المباح: ما لا يُثاب على فعله ولا على تركه.

ويفرّق أبو حنيفة بين الفرض وهو ما كانت أدلته قطعية، أي من القرآن، والواجب ما كانت أدلته ظنّية كاحتمال الآية لأوجه أو الحديث أو القياس، والمكروه:

  1. ما كان خلاف السنة غير الناهية (خلاف الأولى)، ويسمى مكروه تنزيهي.
  2. خلاف السنة الناهية، ويسمى مكروه تحريمي.

قلنا إن تعريف الفقه عند الفقهاء: العلم بالأحكام الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية، وأول هذه الأدلة وعمادها ما جاء في القرآن الكريم، فهو مصدر التشريع الأول، بما يحمل من أوامر ونواهٍ، نزل به الروح الأمين على سيّد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

ولا يُفهم القرآن ولا يُعرف إلا من طريق رسول الله صلى الله عليم وسلم، فهو أول من فسّر القرآن ووضّح معانيه، وبيّن أحكامه، بل وزاد وأضاف مما أوحاه الله عليه فنطق به ((وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى))، فقال صلى الله عليه وسلم: (أوتيت القرآن ومثله معه).

فكانت سنة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه من أقوال وأفعال وتقرير هي حبل النجاة مع القرآن كما بيّن عليه الصلاة والسلام: (لقد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما تمسكتم بهما كتاب الله، وسنتي).

فجاءت السنة المطهّرة شارحةً وموّضحّةً، لما جاء في القرآن الكريم، بل لا يُستغنى عنها، فالصلاة جاءت في القرآن ذكراً ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاة))، لكن في السنة شرحاً وتوضيحاً (صلوا كما رأيتموني أُصلّي)، وكذلك الحج (خذوا عني مناسككم) وسائر الأحكام.

وعليه فالأدلة التفصيلية للأحكام الفقهية، إنما كانت أولاً من القرآن الكريم، والسنة الشريفة.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم المصدر الأول والمعلم الأوحد والنبع الأصفى لاستقاء سائر الأحكام الشرعية في الشريعة الإسلامية.

ثم بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سنة خلفائه تبع لسنته، فقال صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي، عضّوا عليها بالنواجذ)؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعمّد مشاورة أبي بكر وعمر في كل المسائل صغيرها وكبيرها ليكون لديهم الاطلاع الواسع والعلم والغزير، فنهج الشورى مما التزم به النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، فيما لم يؤمر به من أحكام لقوله تعالى: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ))، وقربهم من رسول الله “حساً ومعنى” جعلهم أعرف الناس بسنته وأكثر الصحابة اطلاعاً على أقواله وأفعاله وبالتالي معرفةً بأحكامه.

فكانت سنة أبي بكر وعمر جزءاً لا يتجزأ من السنة النبوية الشريفة التي حفظتها كتب السنن، بل كانت جزءاً من البيان الانتخابي لسيدنا عثمان من بعدهم، ولا ينقص علمهم من علم سيدنا علي الذي قال النبي بحقه: (أنا مدينة العلم، وعلي بابها)، لذا كان يتعوّذ سيدنا عمر “من معضلة لا أبا الحسن لها”.

فكان عثمان وعلي وبقية العشرة من الصحابة الكرام أهل الحل والعقد الذين لا يقطع عمر أمراً دونهم، وتتوسع الدائرة شيئاً فشيئاً، فباعتقادنا بأن جميع الصحابة الكرام عدول رضي الله عنهم وأرضاهم وهم أصحاب النبي وملازموه، وورثة علمه، والأٌمناء على سنته، الذين أمرهم رسول الله بتبليغ ما علموه، ونقله لمن بعدهم، فقال لهم في حجة وداعه: (نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فرّبّ مبلغ أوعى من سامع)، فأطلقهم صلى الله عليه وسلم ليكملوا المشوار من بعده (علماء وفقهاء كادوا من علمهم أن يكونوا أنبياء).

وما أن انتشر الصحب الكرام في أصقاع الأرض دعاءةً هداةً ومعلمين حتى صار كل واحد منهم مرجع ومنارة علم وتبليغ في كل بقعة وطؤها، وبعد أن كانت المدينة المنورة مصدر الاشعاع الوحيد، صار في العالم الإسلامي حواضر علم، ومدارس تعليم، تنشر علم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلّم الدين.

بدأت تتسع رقعتها شيئا فشيئاً مرافقة للفتح الإسلامي المبارك، وكلما حلّ صحابي جليل في منطقة أشرقت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم واستنارت بشريعته، وجعل الصحابة الكرام ينقلون علومهم ويؤدون ما في أعناقهم من أمانات إلى طلبتهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوصهم بأن يرحبوا بطلبة العلم ويستوصوا بهم خيراً.

فخرج جيل التابعين نهاية القرن الأول ومطلع القرن الهجري الثاني الذي تتلمذوا على يد الصحابة الكرام، وأخذوا علومهم كلها جنباً إلى جنب، ثم نقلوها لتلامذتهم جيل تابعي التابعين ليضَعوا علماء موسوعيين يتقنون كل علم وفن، بل وفُتح لهم باب العلم اللدني ((وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)) على قدر إيمانهم وتقواهم (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ)).

فرأينا نماذج عجيبة من قيّضهم الله تبارك وتعالى لحفظ علوم الأمة المحمديّة وبرز منهم قامات لا تُجارى، وصفحات مشرقة في تاريخ الإسلام تفاخر حضارات الإنسانية كلها من خير القرون (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم).

ومن هؤلاء الأفذاذ علماء اختصوا بعلم الفقه وبرعوا فيه، وقدّموا للعالم الإسلامي معروفاً تطوّقت له الأعناق، في البحث والاستنتاج في مصادر التشريع وزادوا عليها، لنحصل على ثروة أحكام شرعية عملية مكتسبة من أدلتها التفصيلية، كما ذكرنا في تعريف علم الفقه الذي نحن بصدده، ومن هذه الشخصيات العظيمة الشريفة الكريمة:

  • الإمام مالك بن أنس – إمام دار الهجرة.
  • الإمام أبو حنيفة النعمان – الإمام الأعظم.
  • الإمام الشافعي.
  • الإمام أحمد بن حنبل.
  • الإمام محمد بن الحسن.
  • الإمام الليث بن سعد – فقيه مصر واليمن.
  • الإمام الأوزاعي – فقيه بلاد الشام ولبنان.

حيث نثق بعلمهم وفهمهم للقرآن الكريم وسنة النبي العظيم صلى الله عليه وسلم وتقليدهم للصحابة الكرام في اتباع لا ابتداع، كما قال أحدهم حين سُئل: أبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أجيبك أم بقول مالك؟ قال: بل بقول مالك، ففهم مالك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أوثق وأفضل وأصحّ من فهمي.

رضي الله عنهم أجمعين وعنّا بحسن اتباعهم.

العودة للفهرس

الدرس الثاني:

تعريف مصادر التشريع الإسلامي

هي الأدلة التي تستند إليها الشريعة الإسلامية، وهناك أدلّة متفق عليها بين أغلب الفرق والمذاهب، وهناك أدلّة مختلَف عليها.

والشرع هو ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم من أحكام.

ومصادره:

  • المصدر الأول: القرآن الكريم
  • المصدر الثاني: السنة الشريفة

وهما وحيان من عِند الله تعالى، نستقي منهما سائر الأحكام، ثم أُضيف إليهما:

  • المصدر الثالث: الإجماع.
  • المصدر الرابع: القياس

وهذا مما اتفقت عليه الأمة المحمدية من مصادر أساسية.

وهناك أدلّة مختلَف عليها، مثل:

  • الاستحسان
  • العُرف
  • المصلحة المرسلة
  • سد الذرائع
  • قول الصحابي
  • شرع من قبلنا
  • الاستصحاب

والتي استقى منها الفقهاء أحكام الشريعة، فجزاهم الله عنا خير الجزاء.

العودة للفهرس

الدرس الثالث:

الإمام مالك بن أنس – إمام دار الهجرة
من مصادر التشريع: الإجماع والقياس

أما الوحيين: الكتاب والسنة، فمرّ معنا مكانتهما في التشريع وآلية استقاء الأحكام منهما، ثم أُضيف عليهما مصدر ثالث وهو الإجماع.

ومعناه اللغوي: ما تواطأ عليه الناس واتفقوا عليه.

والتعريف الاصطلاحي: اتفاق مجتهدي الأمة المحمدية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على أمر من الأمور في عصر من العصور.

كما كان في عصر الصحابة الكرام الذين اجتهدوا في عدد من القضايا المستجدة، مثل جمع القرآن، ونسخه، وحرب المرتدين، والأراضي المفتوحة، وانتخاب الخليفة، ووقوع الطاعون.

تلاهم عصر التابعين الذي مهّد لظهور عصر جمع الإجماع (الاجتهاد)، حيث اعتبره الإمام مالك مصدر تشريع رئيسي، وهو إجماع أهل المدينة، ثم قال به الإمام أبو حنيفة يحرصه على إجماع أهل الكوفة.

متى استقر ونضج دور الاجتهاد لأئمة مُبرّزين أمثال الإمام مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم.

صار يُقصد بالإجماع: إجماع الأئمة المجتهدين في مسألة من المسائل.

ثم جاء المصدر الرابع وهو القياس.

الذي يُعد دليلاً شرعياً عند عدم وجود دليل شرعي من نص في كتاب الله أو سنة رسول الله أو الإجماع.

فلا قياس مع النص، كما قرّر الفقهاء.

كما أجاب النبي الرجل الذي يسأل عن الحج عن أمه المتوفاة، فقال له لو كان على أمك دين، أكنت قاضييه عنها؟ قال: نعم، قال: (فدين الله أحق أن يُقضى).

ومنها قياس المخدرات اليوم على الخمر، وغيرها من المسائل.

الإمام مالك – إمام دار الهجرة

ملامح من حياته:

  • ولد سنة 92هـ وتوفي سنة 185هـ، أي عاش 94 سنة.
  • في طفولته كان والداه سبب توجّهه لطلب العلم، فلقي أهم العلم حتى صار مثلهم (من جالس جانس)، (قل لي من تصاحب أقل لك من أنت).
  • جلس للإفتاء منذ بلوغه (17) عاماً، وما جلس إلّا بعد أن شهد به (70) عالماً من علماء المدينة.

فمن شيوخه: (كانوا كبار علماء زمانه)

  • ربيعة (الذي قالت أم مالك لولدها تعلّم أدبه قبل علمه).
  • ابن هرمز.
  • نافع مولى بن عبد الله بن عمر، وكان يُروى عنه، فيقول: حدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن صاحب هذا المقام، ويشير بيده إلى الحجرة الشريفة.
  • ابن شهاب، الذي قال له لمّا نسي حديثاً من أصل 20: (ضاع الحفظ في هذا الزّمان)، فأقسم مالك ألا ينسى كلمةً بعد اليوم.
  • عائشة بنت سعد بن أبي وقّاص (دور المرأة).
  • جعفر الصادق، وهو حفيد سيدنا أبي بكر من جهة أمه، وحفيد سيدنا علي بن أبي طالب من جهة أبيه، وهو شيخ أبي حنيفة والبخاري.
  • مكث (70) سنة في المسجد النّبوي يعلّم، ويحدّث، ويُفتي.
  • تحقّقت فيه نبوءة النّبي بوصفه (عالم المدينة).
  • كان تلاميذه من شتّى بقاع العالم، يدخل كلّ قوم وحدهم، فحضر درسه تلاميذ صاروا علماء القارّات الثّلاث، بل 4 خلفاء حضروا درسه واستفادوا من علمه.
  • شكله:

كان طويلاً جسيماً، شديد البياض، أشقر، عظيم الهامة، حسن الصورة، أزرق العينين، كان يأخذ أطراف شاربه لا يحلقه، يتحجّج بعمر بن الخطاب الّذي كان يفتل شاربه إذا أهمّه أمر، ولم يكن يخضب شعره، يتحجّج بعليّ بن أبي طالب.

(عليه هيبة العالم ووقاره)

  • ملبسه:

كان يلبس أجود اللّباس وأغلاه وأجمله، وكان يقول: “قبيح بالرّجل أن يعرف دينه بلباسه”، وكان يلبس خاتماً جميلاً منقوش عليه “حسبي الله ونعم الوكيل”.

  • منزله:

كان مكتوباً على بابه “ما شاء الله”، وكان فيه أنواع المفارش والنّمارق.

  • أكله:

كان يحرص على أن يوفّر كلّ يوم لحماً بدرهمين ولو باع من متاع بيته.

  • عمله:

كان له مال في التّجارة.

  • رسالته:

“نذرت نفسي أفرّج كربات المسلمين”.

  • شعاره:

“ما خُيِّر رسولُ الله بين أمرين إلّا اختار أيسرهما”.

من أسرار تألّقه قاعدتين اعتمدهما:

  • “حيث المصلحة تجد الشرع”.
  • “الأصل في الأشياء الإباحة”.

لذلك كان يقول: (إنّ الفقيه الّذي يبيح للنّاس، أمّا التّحريم فالكلّ يحسنه).

وألّف كتاب الموطّأ الّذي حوى (١٢) ألف حديث، وكان أوّل ما يؤلّف مرتباً على أبواب الفقه، يعرض فيه الآيات ثم الأحاديث ثم آراء الصحابة وعمل أهل المدينة.

يُروى أن رجلاً جاء إلى الإمام مالك وسأله: أرأيت إن كنتُ أسير في الطريق، فوجدت دجاجة ميتة ودست عليها، فخرجت منها بيضة، فأخذت البيضة، فسقطت، فخرج منها كتكوت، هل يجوز أن أذبحه وآكله؟ فقال له الإمام مالك: أعراقي أنت؟ فقال الرجل: نعم، فقال الإمام مالك: سلوا عمّا يقع، لا تسألوا عمّا لا ينفع.

ويُروى أيضاً أن رجلاً جاء إلى الإمام مالك وقال له: إذا قال رجل لرجل: يا حمار، ماذا يفعل به؟ قال: يجلد تأديباً، فقال له: أرأيت إذا قال له يا حصان؟ فقال: تجلد تأديباً لأنك عراقي.

العودة للفهرس

الدرس الرابع:

الإمام أبو حنيفة النعمان – الإمام الأعظم

وُلد الإمام أبو حنيفة سنة 80هـ، وتوفي سنة 150هـ في الكوفة.

وكان مسجد الكوفة يسع 40 ألف مصلي، حيث كانت مركز الخلافة زمن سيدنا علي، وفيها ثلة من الصحابة.

بدأ بطلب العلم وعمره 17 سنة بتوجيه من الإمام الشعبي رحمه الله، ولزم حماد بن أبي سليمان يتعلّم كل يوم منه 3 مسائل، ويعمل في التجارة.

وأخذ عن الإمام جعفر الصادق، وكان قد صحب حماد 8 سنوات، ويقول عنه: “إني لاستغفر لحماد كما استغفر لوالدي في كل صلاة، وإني لأستغفر لمن علمني العلم ولمن علمته العلم”، ومن محبته له كان لا يمدّ رجله تجاه بيته وبينهما 7 سكك، ويقلب الورق بين يديه يخشى أن تصدر صوتاً.

بدأ حلقته وعمره 40 سنة، واستمرت 30 سنة بعمل جماعي وحسب الاختصاص، واتبع المنهج العلمي (مشكلة، فروض مقترحة، حلول، توثيق، مراجعة)، ويقول: لا نتفقه إلّا هكذا. لذلك لما قيل للإمام سفيان الثوري: أخطأ أبو حنيفة، قال: ما ينبغي أن يخطئ لأنه لا ينكر وحده.

كان أول من أجرى المنح الدراسية، كما فعل لتلميذه أبو يوسف، وقال له: إني لأرجوك للناس من بعدي، ثم صار قاضي قضاة خليفة المسلمين.

كان أول من أصّل الاجتهاد، الرأي، القياس، ووضح الفقه التقديري، فوضع أكثر من 20 ألف مسألة افتراضية.

  • استخدم المنطق العقلي (قصته مع الخوارج والصلاة على جنازة رجل شرب الخمر وأُخرى زنت).
  • استخدم المنطق العملي (إقناع ناشر الإشاعات عن عثمان بن عفان رضي الله عنه).
  • استخدم التحايل الذكي (مع صاحب الشرطة أبو العباس في زمن أبو جعفر المنصور).
  • التعامل بصبر وحلم (قصته مع جاره الشاب (سأنشدهم إذا ما هم جفوني … أضاعوني وأي فتى أضاعوا)).
  • الثبات على المبدأ (أراد أبو جعفر أن يوّليه القضاء فأبى، فأمر بجلده 120 جلدة، ومُنع من الإفتاء، فلم يفتِ ابنه حتى.

لما مات صلّى عليه 50 ألف على 6 مرات، ولما نعاه ابن المبارك قال: مات العلم، وفي ذات العام وُلد الإمام الشافعي، الذي قال فيه: “ما علمت في الأرض أفقه من أبي حنيفة”، وقالوا: ينبغي لكل مسلم أن يدعو في صلاته لأبي حنيفة.

العودة للفهرس

الدرس الخامس:

الإمام الشافعي
من مصادر التشريع: العُرف

لغةً هو: العادة، أي اطراء سلوك الناس في مسألة معينة على نحو خاص، بحيث تنشأ منه قاعدة قانونية غير مسنونة، فتصبح به قانوناً أو إلزاماً، وهو ما تعارف عليه أهل العقول السليمة، وليس في الشرع ما نخالفه.

ويمكن تقسيمه إلى:

  • عُرف عام، وهو ما تعارف عليه أهل الأقاليم الإسلامية في عصر من العصور.
  • عُرف خاص، وهو ما يتعارف عليه أهل مدينة وبلد وقرية.

أدلته:

استدل أهل العلم بقوله تعالى: ((خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)).
ومن السنة بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيّء).

ويختلف عن الإجماع:

أن الإجماع خاص بالمجتهدين، وتحتاج جهداً وضبطاً وتحرّياً.
أما العرف فهو يشمل الخواص والعوام ولا يحتاج جهداً كثير ولا ضبط.

ومن أمثلة الأحكام الشرعية التي اعتمدت على العرف: جواز أخذ الأجرة على إمامة المسجد، وتعليم القرآن والآذان.

ومن أمثلة العرف القولي: إذا حلف رجل أن لا يأكل لحماً فإنه لا يحنث بأكل السمك، أو حلف أن لا يدخل بيتاً فلا يحنث إذا دخل المسجد.

وهناك تعريفات العرفية كالزوجة إذا ادّعت على زوجها بعد سنين أنه لم يُطعمها ولم يكسها ولم يُنفق عليها فإن هذه الدعوى لا تُسمع لتكذيب العُرف لها.

الإمام الشافعي

اسمه ونسبه:

هو الإمام أبو عبد الله محمّد بن إدريس بن العبّاس بن عثمان بن شافع بن السّائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطّلب بن عبد مناف جدّ جدّ النبي صلّى الله عليه وسلم وشافع هذا صحابيّ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأبوه السّائب الّذي أسلم يوم بدر وأمّه يمانيّة من الأزد وكانت من أذكى الخلق فطرة.

قال ابن حجر: المجدّد لأمر الدّين على رأس المائتين.

قال الذّهبي: الإمام، ناصر الحديث، ثقة.

مولده ونشأته:

ولد عالمنا في غزّة من أرض فلسطين سنة خمسين ومائة للهجرة (150 هـ)، وهي سنة وفاة الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي الله عنه، وليست غزّة موطن آبائه وإنّما خرج أبوه إدريس إليها في حاجة فولد له محمّد ابنه ومات هناك.

توفّي والده وهو صغير لا يتجاوز العامين فذهبت به أمّه إلى مكّة وقد آثرت أن تهجر أهلها الأزد في اليمن وتحمل طفلها إلى مكّة مخافة أن يضيع نسبه وحقّه في بيت مال المسلمين من سهم ذوي القربى وكانت هذه أوّل رحلة في حياة هذا الطّفل الّتي كانت كلها رحلات.

نشأ الشافعيّ في مكّة وعاش فيها مع علوّ وشرف نسبه عيشة اليتامى والفقراء، والنّشأة الفقيرة مع النّسب الرّفيع تجعل النّاشئ يشبُّ على خُلُقٍ قويمٍ ومسلكٍ كريمٍ، فعلو النّسب يجعله يتّجه إلى معالي الأمور والفقر يجعله يشعر بأحاسيس النّاس ودخائل مجتمعهم، وهو أمرٌ ضروريّ لكلّ من يتصدّى لعملٍ يتعلّق بالمجتمع.

وقد بدت عليه علائم النّبوغ والذّكاء الشّديدين منذ الصّغر حتّى إنّ معلّم الكتّاب قَبِلَ دخوله فيه دون أجر مقابل حلوله محلّه في تعليم الصّبيان أثناء غيابه، وكان قويّ الذّاكرة، فقد قيل: إنّه ما نسي شيئاً حفظه أبداً.

طلبه للعلم ومنزلته العلميّة:

حفظ الشّافعيّ القرآن وهو ابن سبع سنين، وجَوَّدَهُ على مقرئ مكّة الكبير إسماعيل بن قسطنطين وأخذ تفسيره من علماء مكّة الّذين ورثوه عن ترجمان القرآن ومفسّره عبد الله بن عبّاس رضي الله عنهما، ثم اتّجه بعد حفظه القرآن لحفظ أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد أولع منذ حداثة سنّه بالعربيّة، فرحل إلى البادية يطلب النّحو، الأدب، الشّعر واللّغة ولازم هذيلاً عشر سنوات يتعلّم كلامها وفنون أدبها وكانت أفصح العرب، فبرز ونبغ في اللّغة العربيّة وهو غلام.

قال الأصمعي –ومكانته في اللّغة مكانته–: “صحّحت أشعار هذيل على فتى من قريش يقال له محمّد بن إدريس”، وفي مكّة كان يتردّد على المسجد يسمع من العلماء بشغف شديد، وكان في ضيق العيش بحيث لا يجد ثمن الورق الّذي يدوّن عليه فكان يعمد إلى التقاط العظام والخزف والدّفوف ونحوها ليكتب عليها، وكان يقول: “ما أفلح في العلم إلّا من طلبه في القلّة ولقد كنت أطلب ثمن القراطيس فتعسّر عليّ”.

ولم يكن قد تجاوز الخامسة عشرة من العمر حين صار أستاذه مسلم بن خالد الزّنجي (إمام أهل مكّة ومفتيها)، يقول له: “أفتِ يا أبا عبدِ الله فقد والله آن لك أن تفتي”، وهكذا اجتمع له في مكّة النّبوغ في اللّغة والفقه والتّفسير، ولكنّ همّته في طلب العلم لم تقف به عند هذا الحدّ، فقد جاهد في سبيله فكان كثير التّرحال، وكان العلماء والفقهاء في ذلك العصر يشدّون الرّحال إلى المدينة ليروا عالمها المشهور مالك بن أنس رضي الله عنه، وكان مالك صاحب مجلس في الحرّم النّبويّ لم يطرق الخلفاء بابه ويحسبون حسابه، وطرقت أخبار الإمام مالك أسماع عالمنا الشّافعيّ، فاشتاق لرؤيته وتلهّف لسماع علمه، فحفظ كتابه الموطّأ ورحل إلى يثرب وهناك لم يستطع أن يظفر بالوصول إلى باب مالك إلّا بعد جهد.

نظر إليه مالك وكانت له فراسة، فقال له: “يا محمّد اتّقِ الله واجتنب المعاصي فسيكون لك شأن من الشّأن”، وفي رواية: “إنّ الله عزّ وجلّ ألقى على قلبك نوراً فلا تطفئه بالمعاصي”، ثمّ قال له: “إذا ما جاء الغد تجيء ويجيء من يقرأ لك”، قال الشّافعيّ: “فقلت أنا قارئ فقرأت عليه الموطّأ حفظاً والكتاب في يدي فكلما تهيّبت مالكاً وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: “يا فتى زد”، حتّى قرأته عليه في أيّام يسيرة، وقال: “إن يكُ أحد يفلح فهذا الغلام”.

وبعد أن قرأ على مالك موطّأه لزمه يتفقّه عليه ويدارسه المسائل الّتي يفتي بها الإمام الجليل وتوطّدت الصّلة بينه وبين شيخه، فكان مالك يقول: “ما أتاني قرشيّ أفهم من هذا الفتى”، وكان الشّافعيّ يقول: “إذا ذكر العلماء فمالك النّجم وما أحد أمنّ عليّ من مالك”، ولكن يبدو أن ملازمته لمالك رضي الله عنه لم تكن بمانعةٍ له من السّفر والاختبارات الشّخصيّة، فكان يقوم بين وقت وآخر برحلات في البلاد الإسلاميّة، كما كان يذهب إلى مكّة يزور أمّه ويستنصح بنصائحها.

وبعد مضي عشر سنوات على إقامته في المدينة توفّي الإمام مالك، وأحسّ الشّافعيّ أنّه نال من العلم أشطراً، فاتّجهت نفسه إلى عمل من أعمال الدّولة يتكسّب به بعد أن رهن داره وعجزت أمّه عن معونته.

فتولّى عملاً بنجران من اليمن وهناك طفق يتردّد على حلقات العلم ويأخذ عن كبار العلماء فيها إلى أن وقع بينه وبين والي اليمن أثناء عمله شيء (بسبب ما أخذه عليه من الظّلم)، فوشى به الوالي إلى الخليفة هارون الرّشيد الّذي أمر بإحضاره إلى بغداد (وفي محنته تفصيل سيأتي)، ولعلّ هذه المحنة الّتي نزلت به قد ساقها الله تعالى إليه ليصرف اهتمامه عن الولاية ونحوها ويعود للاتّجاه بكلّيته نحو العلم وخرج الشّافعيّ رضي الله عنه من التّهمة الّتي نسبت إليه ليطبق علمه وشهرته الآفاق.

فقد أصبح محمّد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة الّذي آلت إليه رياسة الفقه في العراق أستاذاً للشّافعيّ تلقّى عنه فقه أهل الرأي، ولما كان قد أخذ فقه أهل الحديث عن مالك الّذي آلت إليه رياسة الفقه في المدينة، فقد خرج من هذين المذهبين بمذهب يجمع بينهما وهو مذهبه القديم المسمّى بكتاب الحجّة (رواه عنه العديد من العلماء وكان الزّعفرانيّ أتقنهم له رواية وأحسنهم له ضبطاً).

ثم قفل عائداً إلى مكّة وفي جعبته علوم أهل الأرض في ذلك العصر بعد أن مضى عامان على إقامته في بغداد وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكّيّ والتقى به أكبر العلماء في موسم الحجّ، فكانوا يرون فيه عالماً هو نسيج وحده، وفي هذه الأثناء التقى به أحمد بن حنبل، قال إسحق بن راهويه: “لقيني أحمد بن حنبل بمكّة، فقال: “تعال أريك رجلاً لم ترَ عيناك مثله فأراني الشّافعيّ، قال: فتناظرنا في الحديث فلم أرَ أفقه منه ثمّ تناظرنا في القرآن فلم أرَ اقرأ منه ثمّ تناظرنا في اللّغة وما رأت عيناي مثله قطّ”.

ومكث في مكّة تسع سنوات كاملة، وهو الّذي عهدناه صاحب سفر وترحال، ليصفوَ له الجوّ لاستخراج قواعد الاستنباط بعيداً عن ضوضاء العراق وتناحر الآراء فيها وألّف كتاب الرّسالة في علم أصول الفقه.

ثمّ ارتحل ثانيةً إلى بغداد وقد سبقته شهرته إليها وتحدّث بذكره المحدّثون والفقهاء ولقّب فيها بناصر الحديث وأخذ ينشر آراءه الفقهيّة الأصوليّة ويجادل على أساسها، وعقد في الجامع الغربيّ في بغداد حلقات العلم والفقه وأمَّه المتعلّمون والعلماء منهم الممتحن ومنهم المستمع ومنهم المتعدّ بمذهبه السّاخر بهذا المتفقّه الجديد على زعمه، فما يكادون يجلسون إليه ويستمعون له حتى يرجعوا عن قولهم ويتركوا ما كانوا فيه ويتّبعوه.

وما زال الشّافعي يصول ويجول ويأتي كلّ يوم بجديد من فهم كلام الله وفقه حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى حمل العلماء على الإقرار بعلمه وظهر أمره بين النّاس وانفكّت حلقات المخالفين حتّى إنَّ أحدهم قال: “قدم الشّافعي بغداد وفي الجامع الغربيّ عشرون حلقة لأصحاب الرّأي، فلمّا كان يوم الجمعة لم يثبت منها إلّا ثلاث حلق أو أربع”، وفي هذه المقدمة الّتي دامت عامين أعلن رضي الله عنه كتبه وقد أنضجها الدّراسة والمراجعة ونشرها بين صحابته.

وتكرّرت رحلات الشّافعيّ بين مكّة وبغداد وكانت خاتمة رحلاته إلى مصر الّتي كان الدّافع إليها ميله للابتعاد عن مركز الخلافة والسّياسة وذلك بناءً على دعوة والي مصر له وانتهى به المطاف هناك وأملى مذهبه الجديد في كتابه (المبسوط) الّذي اشتهر فيما بعد باسم كتاب الأمر وأعاد النّظر في آرائه وكتبه ومؤلّفاته، فجدّد بعضها ونسخ بكتابه المصريّ كتابه البغداديّ (المذهب الجديد هو المعتمد وعليه العمل)، إلّا أنّ هناك مسائل معيّنة قد اختارها فقهاء المذهب من القديم ورجّحوا الإفتاء بها وتركوا الجديد فيها ولقد أحصاها بعضهم بأربع عشرة مسألة وبعضهم باثنتين وعشرين مسألة وهي منثورةٌ في كتب المذهب)، وقال رضي الله عنه: “لا أجعل في حلّ من روى عنّي كتابي البغداديّ”.

وكان النّاس في مصر على مذهبِ الإمام مالك، فقدّموا الشّافعيّ واستمعوا إليه وافتتنوا به، وقصده كثيرون من الشّام واليمن والعراق وسائر الأقطار للتفقّه عليه.

وهكذا توالت الشّهادات بمكانة الشّافعيّ من العلم في عصره وأجمع شيوخه وقرناؤه وتلاميذه على أنّه كان علماً بين العلماء لا يجارى ولئن تجاوزنا هذه الشّهادات لنجدنّ شهادة (أقوم دليلاً) هي ما تركه من آثار من أقوال مأثورة أو فتاوى منثورة أو رسائل كتبها أو كتب أملاها.

وكان مجلسه للعلم جامعاً للنّظر في عدد من العلوم، قال الرّبيع بن سليمان: “كان الشّافعيّ رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلّى الصّبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشّمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنّظر، فإذا ارتفع الضحى تفرّقوا وجاء أهل العربيّة والعروض والنّحو والشّعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النّهار”.

لقد بوركت نبوءة النّبي صلّى الله عليه وسلّم في الشّافعيّ حين قال: (اللّهم اهدِ قريشاً فإنّ عالمها يملأ طباق الأرضِ علماً).

العوامل الّتي هيأته للنّبوغ العلميّ:

  • مواهبه وصفاته:

لقد آتى الله الشّافعيّ حظّاً من المواهب يجعله في الذّروة الأولى من قادة الفكر وزعماء الآراء، فقد كان قويّاً في كلّ قواه العقليّة ممّا جعل تلميذه بشر المريسيّ يقول: “مع الشّافعيّ نصف عقل أهل الدّنيا”، وكان حاضر البديهة، عميق الفكرة، بعيد المدى في الفهم، فكانت دراسته طلباً للكلّيّات والنّظريّات العامّة.

وكان قويّ البيان واضح التّعبير أوتي مع فصاحة لسانه وبلاغة بيانه صوتاً عميق التّأثير يعبّر بنبراته وقد سمّاه ابن راهويه: (خطيب العلماء).

وكان نافذ البصيرة في نفوس النّاس، قويّ الفراسة، كشيخه مالك في معرفة أحوال الرّجال وما تطيقه نفوسهم وكان هذا سبباً في أن التفّ حوله أكبر عددٍ من الصّحاب والتّلاميذ وكان صافي النّفس من أدران الدّنيا وشوائبها لذلك كان مخلصاً في طلب الحقّ والمعرفة، يطلب العلم لله ويتّجه في طلبه إلى الطّريق المستقيم فإذا اصطدم إخلاصه مع ما يألفه النّاس من آراءٍ أعلن آراءه بكل جرأة وقوّة وقد بلغ من زهده في جاه العلم وإخلاصه لطلب الحقّ أنّه كان يقول: “وددت أنّ النّاس تعلّموا هذا العلم لم ينسب إليّ شيء منه فأوجر عليه ولا يحمدوني”، وما كان يغضب في جدال ولا يستطيل بحدّة لسان في نزل لأنّه يبغي الحقّ في جدله، يقول رضي الله عنه: “ما ناظرت أحداً قطّ على الغلبة، وددت إذا ناظرت أحداً أن يظهر الحقّ على يديه”، ولقد أكسبه الإخلاص ذكاء قلب ونبل غرض وتباعداً عن الدّنايا.

وكان شديد التّشبّث بحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يقول الرّبيع: سمعت الشّافعيّ يقول: “ما من أحد إلا وتذهب عليه سنّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمهما قلتُ من قول أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لخلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو قولي” وجعل يردّد هذا الكلام.

  • شيوخه:

تلقّى الشّافعيّ الفقه والحديث على شيوخ تباعدت أمكنتهم وتخالفت مناهجهم، فجمع فقه أكثر المذاهب الّتي كانت في عصره (وقد روى عن كثير من المشايخ أشهرهم تسعة عشر: خمسة مكّيّة وستة مدنيّة وأربعة يمانيّة وأربعة عراقيّة).

وتلقّى فقه مالك عليه، وتلقّى فقه الأوزاعيّ عن صاحبه عمر بن أبي سلمة من أهل اليمن، وتلقّى فقه اللّيث بن سعد فقيه مصر عن صاحبه يحيى بن حسّان، ثمّ تلقّى فقه أبي حنيفة عن محمّد بن الحسن فقيه العراق وبذلك يكون قد برع في مدرسة الحديث في المدينة ومدرسة الرّأي في العراق، وكان ثمّة مدرسة ثالثة تعنى بتفسير القرآن وهي مدرسة مكّة الّتي اتّخذها ابن عبّاس رضي الله عنهما مقاماً له وقد جعل الشّافعيّ ابن عبّاس مثله الكامل وترسّم خطاه وسار في مثل سبيله.

وانساغ كلّ ذلك العلم الكثير في نفس الشّافعيّ، فكان منه ذلك المزيج الفقهيّ المحكم الّذي تلاقت فيه كل النّزعات منسجمة متعادلة متآلفة النّغم وتولّدت منه تلك المعاني الكلّيّة فقدّمها للنّاس في بيان رائع وقول محكم.

لمحة عن عبادته وأخلاقه:

كان رضي الله عنه كثير العبادة، فكان يقسّم اللّيل إلى ثلاثة أقسام: ثلث للعلم وثلث للنّوم وثلث للعبادة، وكان يقف بين يدي ربّه فيصلّي ويقرأ وعيناه تفيضان بدمعٍ غزيرٍ خشيةَ التّقصير، وقد كان رضي الله عنه يرى نفسه لشدّة تواضعه من أهل المعاصي.

وفي ذلك يقول:

أحبّ الصّالحين ولست منهم          لعلّي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من بضاعته المعاصي         وإن كنّا جميعاً في البضاعة

مرضه ووفاته:

كان رضي الله عنه كثير الأوجاع والأسقام وكان يشكو البواسير خاصّة ولقد بلغت منه في أواخر أيّامه مبلغاً عظيماً، فكان ربّما ركب فسال الدّم من عقبيه وكان لا يرح الطّست تحته وفيه لبدة محشوّة يقطر فيه دمه، وما لقي أحد من السّقم مثل ما لقي ولكنّ هذا لم يكن ليصرفه عن الدّروس والأبحاث والمطالعات وليس هذا غريباً على مثله ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد قال عندما سئل عن أشدّ النّاس بلاءً: (الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل).

ولمّا كان في مرضه الأخير دخل عليه تلميذه المزنيّ، فقال له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدّنيا راحلاً وللإخوان مفارقاً ولكأس المنيّة شارباً وعلى الله عزً وجلً وارداً، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنّة فأهنّئها أم إلى النّار فأعزّيها، ثمّ بكى وأنشأ يقول:

ولمّا قسا قلبي وضاقت مذاهبي       جعلت رجائي نحو عفوك سلّما

تعاظمني ذنبي فلما قرنته     بعفوك ربّي كان عفوك أعظما

فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل   تجود وتعفو منة وتكرّما

وفي آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين للهجرة انتقلت روحه الطّاهرة إلى ربّها عن أربع وخمسين سنة.

وفي عصر اليوم التّالي خرجت مئات الألوف تنقل الشّافعيّ إلى مثواه الأخير في القرافة بمصر، وذهل النّاس بوفاة الشّافعيّ وخيّمت الكآبة على وجوه العلماء وهيضت أجنحة تلاميذه وطويت صفحة مشرقة من صفحات تاريخنا الرّائع، وغاب نجم من النّجوم الّتي سطعت في سماء البشريّة فأضاءت المشرق والمغرب.

رحم الله الشّافعيّ ورضي عنه وأكرم مثواه، فقد كان كما قال عنه أحمد بن حنبل رضي الله عنه: “كان الشّافعيّ كالشّمس للدّنيا وكالعافية للبدن فانظر هل لهذين من خلف أو عنهما من عوض”.

العودة للفهرس

الدرس السادس:

الإمام أحمد بن حنبل
من مصادر التشريع: سدّ الذرائع

الذريعة لغةً: الوسيلة.

الذريعة اصطلاحاً وشرعاً: ما ظاهره مبارح، ويتوصل به إل محرم.
فالنهي عن هذا المباح خوفاً من أثره، وهو ما يسمى: (سد الذرائع)، مثال: النهي عن سب المشركين في قوله تعالى: ((وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ))، فسبُّ المشركين وأوثانهم مباح في الأصل، ولكن الله نهى عنه لئلا يكون ذريعة لسب الله.

والذريعة عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه يخاف من ارتكابه الوقوع في ممنوع.

ويدل عليه في السنة بحديث عائشة رضي الله عنها أن أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهن ذكرتا كنيسة رأياها بالحبشة فيها تصاوير فذكرتا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله).
قال علماؤنا: ففعل ذلك أوائلهم ليتأنسوا برؤية تلك الصور ويتذكروا أحوالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عز وجلّ عند قبورهم، فمضت لهم بذلك أزمان، ثم أنهم خلف من بعدهم خلوف جهلوا أغراضهم، ووسوس لهم الشيطان أن آباءكم وأجدادكم كانوا يعبدون هذه الصورة فعبدوها.

وعن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه)، فمنع من الأقدام على الشبهات مخافة الوقوع في المحرمات، وذلك سداً للذريعة.

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به البأس)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الكبائر شتم الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: (نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه)، فجعل التعرض لسب الآباء كسب الآباء.
ومنها حديث (القاتل لا يرث)، فجاء إبطال ميراث القاتل لسد ذريعة قتل الورثة له ليرثوه.

الإمام أحمد بن حنبل

أهم محطات حياته:

  • وُلد 164هـ، من بني شيبان في بغداد، وبنو شيبان من القبائل العربية التي عرض عليها النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم الإسلام، فامتنعوا لأنهم على حدود فارس ويخافون منهم، لكنهم وضحّوا ذلك للنبي بكل صراحة ووضوح.
    ومنهم كان بعد ذلك الصحابي المجاهد الفاتح المثنى بن حارثة، وهذه الصفات (الوضوح والإقدام) ستظهر في موروثات أبناء القبيلة، وسنرها في شخصية عالمنا الإمام أحمد بن حنبل.
  • عاش يتيماً، فقيراً، حيث توفي والده وجدّه في نفس السنة.
  • تعلّم القراءة والكتابة والخط بتوجيه من أمه وتشجيعها.
  • حَفِظَ القرآن الكريم وطلب العلم وجالس العلماء.
  • كان شديد البرّ لأمه، مطيعاً لها.
  • بدأ في عمر 16 يطلب الحديث، ووضع هدفاً لحياته، وهو أن يجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
    قالوا له حتى متى تحفظ الحديث! حتى تحفظ عشرة آلاف حديث؟ قال: بل أكثر، قالوا: فعشرون ألفاً؟ قال: بل أكثر، قالوا: خمسون ألفاً؟ قال: بل أكثر، قالوا: فمئة ألف حديث! قال: أكون قد بدأت.
    وفعلاً جعل يجمع ويجمع حتى حفظ ألف ألف حديث وصار إمام الحديث في زمانه.
    وكان قد حفّظ ابنه عشرة آلاف حديث، فلمّا أتمها، قال له: يا بني، هذه الأحاديث مكذوبة على النبي، فقال ابنه: فلِمَ حفظتُها؟ قال: حتى تميّزها عن الأحاديث الصحيحة.
  • سافر وحجّ ليطلب العلم ويلتقي بالعلماء، حتى أنه كان من فقره يسافر ماشياً على قدميه من بغداد إلى مكة ليلتقي العلماء ويتعلم منهم.

محنته:

ظهر في عصره فئة تسمّى (المعتزلة)، وقد تصدى لهم الإمام الأعظم أبو حنيفة في زمانه، وتلاه أبو يوسف القاضي (تلميذه)، فلم يتمكنوا من تحقيق مآربهم، غير أنهم نجحوا في زمن ابن حنبل.

حيث كانوا واسعي الثقافة، حيث أسرفوا في تقدير سلطان العقل، وحدود العلم الإنساني.

وآمنوا بقوة العقل واقتداره، فمنحوا العقل سلطة إقامة البراهين حتى على الله، فلا حدود للعقل إلا ببراهينه، ولا زلل متى صحّ البرهان.

فاستعملوا البراهين لأدّق الأمور، ويأوّلون القرآن حسب مقتضاها.

فتحوّل الدين إلى فلسفة نظرية دقيقة، يعجز عن فهمها حتى الأذكياء.

حتى عُيّن قاضي القضاة (أحمد بن أبي داوود) الذي مكّن لهم.

قالوا بأن القرآن مخلوق لأنه الله هو القديم، وما عداه محدث مخلوق، واعتبروا ذلك فارقاً بين الإسلام والكفر، واقتنع المأمون (خليفة ذلك الزمن) وجعل يُجبر الناس على اعتناق تلك العقيدة.

(حاولوا في عهد المنصور لكن لم يستطيعوا بسبب أبو حنيفة، وحاولوا في عهد الرشيد لكن لم يستطيعوا بسبب أبو يوسف، لكن استطاعوا في عصر المأمون).

أرسل المأمون لـ 17 عالم، فأجابوه، ثم 4 علماء.

فثبت هو.

قيّدوه، أغروه، [ذلة العالِم ذلة العالَم].

حتى ان أعرابياً قال له وهو يُساق إلى المأمون: “يا إمام، أنت رأس الإسلام، فإن ذللت، فكل هؤلاء الناس في عنقك يوم القيامة، فإن كنتَ تحبُّ الله فاصبر”.
ويقف الإمام أمام المأمون، في اللقاء الوحيد بينهما، فيقول له المأمون: أقسمت بالله، لئن لم تجبني الليلة إلى ما أريد لأقطعن رأسك، فيقول له أحمد بن حنبل “اللهم اكفينيه بما شئت وكيف شئت إنك على ما تشاء قدير”.

يقولون: فقضى اليوم وجاء الليل ونحن نقول سيُقتل الليلة، ففي هذه الليلة مات المأمون،
فاستيقظنا نقول: لا إله إلا الله، هذا من دعاء أحمد بن حنبل، وظننا أن الأزمة ستنفرج.

فإذا بالمعتصم يتولى مكانه، فقد كان ابن أبي داوود ملاصقًا له، حيث أغراه بأن أحمد بن حنبل إذا ظل متمسكا بموقفه سيفقد العباسيون الكثير، وأن الحل هو أن يُضرب ويُؤذى.

فيعلن المعتصم أنه إذا لم يجبه الإمام أحمد بن حنبل إلى ما يريد سيُضرب بالسياط، وهنا اهتز حيث قال له: “والله، ما أخشى السجن فما هو وبيتي إلا واحد، ووالله، ما أخشى القتل فإنما هي الشهادة”.

وفي اليوم التالي، جعلوه يمر بين أيدي الجلادين في طريقه للجَلْد أمام المعتصم، فقابله سارق اسمه “أبو هيثم الطيار” يُضرب كل يوم بالسياط، وعندما نظر إلى وجه الإمام أحمد، قال: يا إمام، اثبت على الحق، فإن عِشتَ عِشتَ حميدًا، وإن مِت مِت شهيدًا. أتعرف يا إمام؟ لقد ضُربتُ في هذا السجن ثمانية عشر ألف سوط، فما ردَّني ذلك عن السرقة، فعلت ذلك من أجل الشيطان، فاثبت أنت يا إمام من أجل الرحمن.

وعندما وقف الإمام أحمد أمام المعتصم قال له: “أنا لا أحب إيذاءك، وإني لأشفق عليك فقل لي ما أريد”، فقال الإمام: “يا أمير المؤمنين، أرأيت هذا الذي تقوله لي أليس الله تبارك وتعالى قد أرسل لنا كتابه؟ ألم يقل الله: ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))؟
قال المعتصم: نعم.
قال الإمام: هل القرآن مخلوق، أهي في كتاب الله؟
قال المعتصم: لا.
قال الإمام: أليس رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ ما أمره الله تبارك وتعالى؟
قال المعتصم: نعم.
قال الإمام: أَعَلِمَ رسول الله بهذه المسألة؟
قال المعتصم: نعم.
قال الإمام: فلِمَ لم يُخبر بها؟
فسكت المعتصم ونظر إلى ابن أبي داوود، وقال له: أجبه.
فقال أحمد بن حنبل: يا بن أبي داوود، أعَلِمَ الصحابة بهذه المسألة؟
قال: نعم.
قال الإمام: فِلمَ لم يخبرونا بها؟
فسكت ابن أبي داوود، وقال الإمام: “يا أمير المؤمنين، أعطني شيئا من كتاب الله، أو من سُنة رسول الله لأقول به، ما كان عليه المسلمون، فدعهم على ما هم عليه”.
فقال ابن أبي داوود: يا أمير المؤمنين، إن لم تضربه ستغري الآخرين.
فقال المعتصم: ائتوني بالجلادين، فحضر إليه عشرة جلادين بسياطهم.

يقول أحد الجلادين: والله لقد ضربته ضربًا لو كان فيلاً لهددته، ويقولون: كنا نضرب السياط فنجد الحُفر في ظهره، فنقول الضربة القادمة ستخرج من فمه، فيُغشى عليه، فيقول المعتصم: أريقوا عليه الماء فيفيق.
فيقول له المعتصم: قل ما أريد.
فيقول الإمام: “يا أمير المؤمنين، أعطني شيئا من كتاب الله، أو من سُنة رسول الله أقول به”.
فيقول المعتصم: أتريد أن تقهر كل هؤلاء؟
فقال الإمام: “يا أمير المؤمنين، كيف أجعل في حال المسلمين ما ليس في القرآن ولا في سُنة رسول الله؟ أعطني شيئا أقول به”.
فيقول المعتصم للجلادين: اضربوه أكثر.
فظلوا يضربونه بالسياط حتى أُغشِي عليه فعملوا على إفاقته، وبدأوا يسقونه الماء خوفا من أن يموت فتثور الناس عليهم.

قالوا له: لو شئت نثور، قال: لا تفعلوا، هو أمير المؤمنين، ولما فتح المعتصم العمورية، قال: “هو مني في حِلّ”، أي سامحه.

عاصر 4 خلفاء، من عمر 55 حتى 77، ثم أخرجه المتوكل، ليموت في بيته، ولمّا مات، أغلقوا المحلات، وجلسوا في الطرقات يبكون.

وكان قد جاءه أحد الجلادين يستسمحه، فاشترط عليه أن لا يجلد أحد بعده.
وحتى آخر أيامه رفض أن يصلي جالساً.
ووضع شعرات الرسول على عينه وشعره يتبرّك بها، حتى فاضت روحه.

عاش مع العبّاسة بنت النضل 30 سنة لم يختلف معها.

كان أهل العلم يقولون عن محنته: “فتنة نجّى الله أيدينا منها، فلننجِ أنفسنا منها”.

فقهه:

  • اعتمد على العُرف كمصدر من مصادر الشرع، ويحب التسهيل، مثل: الطلاق، المسح، بالمقابل يُقال (حنبلي) تيمناً بثباته على مبادئه.

العودة للفهرس

الدرس السابع:

الإمام الأوزاعي
من مصادر التشريع: شرع من قبلنا

لا شك أن ما ثبت أنه شرع من قبلنا بطريق صحيح، وثبت أنه شرع لنا فهو شرعٌ لنا إجماعاً.
وما نسخته شريعتنا فليس شرعاً لنا إجماعاً.
وما لم يرد به كتاب ولا سنة فليس شرعاً لنا.

ومحل الخلاف بين العلماء ما صحّ من شرع من قبلنا عن طريق الوحي (كتاب وسنة) وليس من كتبهم المحرّفة من غير إنكار ولا إقرار لها.
فاختلف فيه العلماء، فمنهم من قال لثبوته أدلة:

  • ((إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)).
  • ((أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)).
  • ((ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ))، وهو شرع لنا لقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۚ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)).
  • ((شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ)).

ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قضي في قصة الربيع بالقصاص في السن، وقال: (كتاب الله القصاص) وليس في القرآن السن بالسن إنما ما حُكي عن التوراة: ((وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ)).

ومنها حكم رجم الزانيين كما جاء في التوراة حين نزل قوله تعالى: ((قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)).

ومنها حكم السجود عند آيات السجود كما فعل داوود عليه السلام كما ذكر البخاري، ومنها حكم من نذر بذبح ولده فإنه يضحي بكبش كما فعل إبراهيم عليه السلام كفارةً لنذره.

وفريقٌ قالوا إن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا.

الإمام الأوزاعي

هو أبو عمرو بن عبد الرحمن بن عمرو بن يُحمد، وهو كبار تابعي التابعين، إمام أهل الشام، كان يسكن دمشق ثم تحول إلى بيروت فسكنها مرابطاً إلى أن مات بها.

ولد الإمام الأوزاعي في بعلبك سنة 88هـ، ونشأ يتيماً في حجر أمه التي كانت تنتقل به من بلدٍ إلى آخر، ومن عالم إلى آخر، فنشأ تنشئة دينية صالحة، وتأدب بنفسه.

رُوي من غير وجه أنه أفتى في سبعين ألف مسألة، وروى عن كبار التابعين، ولم يكن في أبناء الملوك والخلفاء والوزراء والتجار والعلماء وغيرهم أعقل منه ولا أكثر أدباً ولا أروع ولا أعلم ولا أفصح ولا أوقر ولا أحلم ولا أكثر صمتاً منه.

نشأ في بلدة الكرك من البقاع في لبنان حيث تلقى مبادئ العلوم وحفظ القرآن الكريم وحظاً من اللغة، ثم توجه إلى دمشق حيث لازم مكحولاً الذي كان فقيه الشام آنذاك وواحداً من حفاظ الحديث، فأخذ عنه الكثير وقرأ عليه حتى عُدّ مكحول معلم الأوزاعي.
وتلقى الحديث والفقه عن عطاء بن أبي رباح أحد أعلام التابعين، وغيره كثير، حيث استوطن بيروت مع زوجته وأولاده.

ورد عن الوليد بن مسلم أنه قال عنه: “ما رأيت أحداً أكثر اجتهاداً من الأوزاعي في العبادة، وكان إذا صلى الصبح جلس يذكر الله تعالى إلى طلوع الشمس”.
وكان الاوزاعي يقول: “من أطال القيام في صلاة الليل هوّن الله عليه طول القيام يوم القيامة”.
وقيل إنه دخلت امرأة على امرأة الأوزاعي فرأت الحصير الذي يصلى عليه مبلولاً فقالت لها: لعل صبياً بال هنا؟ قالت: هذه دموع الشيخ من بكائه في سجوده، هكذا يصبح كل يوم.

قال مالك: كان الأوزاعي إماماً يُقتدى به، وقال سفيان بن عيينة: كان الأوزاعي إمام أهل زمانه، وقد حجّ مرة فدخل مكة وسفيان الثوري آخذ بزمام جمله ومالك بن أنس يسوق به، والثوري يقول: افسحوا للشيخ، حتى أجلساه عند الكعبة، وجلسا بين يديه يأخذان عنه.

وقال إسماعيل بن عياش: سمعت الناس سنة 140هـ يقولون: الأوزاعي اليوم عالم الأمة.

وقال يحيى بن معين: العلماء أربعة: الثوري وأبو حنيفة ومالك والأوزاعي.

وتوفي في سنة 157هـ، وهو في التاسعة والستين من عمره، وكان يوماً مشهوداً حضره أعداد لا تكاد تُحصى من المسلمين وغيرهم، ودُفن الإمام رحمه الله خارج بيروت قرب شاطئ البحر.

ومن المذاهب المنقرضة: مذهب الأوزاعي:

جاء في كتاب سير أعلام النبلاء أن الإمام عبد الرحمن الأوزاعي أسس مذهباً مستقلاً عمل به فقهاء الشام وفقهاء الأندلس، ثم فني بعد 220 عاماً من ظهوره.
ويُعتقد أنه كان أول مذهب يعمل به أهل الأندلس، وعمل به أهل المغرب أيضاً إلى حين دخول المذهب المالكي المُعتمد حالياً.

بنى الأوزاعي مذهبه على الأخذ بتفسير السنة للقرآن وترجيح الرأي والاجتهاد والقياس وسد الذرائع غير أن مذهبه لم يعمر طويلاً، وإن كانت آراؤه الفقهية لا زالت تضمها كتب الفقه الإسلامي.

يُروى عن الأوزاعي تسامحه الشديد مع مسيحيي ويهود عصره في الشام، فقد وقف في وجه الخليقة العباسي أبي جعفر المنصور الذي أمر بإجلائهم من الشام بسبب ثورة جماعة منهم عليه، لكن الأوزاعي ناصرهم وطالب الخليفة بعدم ترحيلهم، وهو ما تم.

فلقد صاغ الأوزاعي إضافات مهمة في تاريخ التشريع الإسلامي، إذ هو المعتمد بصفة واضحة في قضية التعامل مع غير المسلمين، سواء في السلم أو الحرب بحكم المكان والزمان.

ولقد صنفه عبد الرحمن بن مهدي من أئمة العصر، فقال: “إنما الناس في زمانهم أربعة حماد بن زيد بالبصرة، والثوري بالكوفة، ومالك بالحجاز، والأوزاعي بالشام””، وأنه ما كان بالشام أحد أعلم بالسنة من الأوزاعي.
ويقول الشافعي: ما رأيت رجلاً أشبه فقهه بحديثه من الأوزاعي.

ويُروى أن مذهبه بقي منتشراً في بلاد الشام، حتى تولى أبو زرعة محمد بن عثمان قضاء الشام وهو من أتباع الشافعي فعمل على نشر مذهب الشافعي، إذ كان يهب لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار، وكثرت دعوة للمذهب الشافعي فانقرض مذهب الأوزاعي في الشام.

كما انتشر المذهب الأوزاعي في أماكن أخرى أهمها بلاد المغرب والأندلس، إذ دخل المسلمون بلاد الأندلس أيام موسى بن نصير، وبقي هذا المذهب غالباً فيها أربعين سنة ساد خلالها الفُتيا والقضاء حتى نهاية القرن الثاني للهدرة.
وقد انقرض مذهب الأوزاعي بالأندلس بعد دخول مذهب الإمام مالك إليها، فقد انتشر علم مالك بنصرة الأمير في قرطبة وسائر بلاد الأندلس.

ودُونت في المذهب الأوزاعي العديد من المدونات لا نعثر عليها الآن لاندثارها، إلا أن الأبحاث لا تزال جارية فيما يخص فتاويه وبعض الكتب في فقهه وآرائه.

ومن فُتياه القول بجواز شهادة غير المسلم ولا سيما الذمي للضرورة في وصية المسلم أثناء سفره وفق الآية الكريمة: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ)).

وبوفاته شوهد أحد النصارى يذرّ الرماد على رأسه حزناً على فراقه، واجتمع على جنازته عددا لا يُحصى منهم، بل ويُذكر أن الكثيرين قد أسلموا في ذلك اليوم لما رأوا من كثرة الخلق عند دفنه.

ومن المسائل التي اهتم بها الأوزاعي وعمل على التحذير منها الخوض في الأمور المشتبهة والأغلوطات، فهو يذهب مذهب ابن سيرين الذي كان إذا سُئل عن مسألة فيها أغلوطة قال لصاحبها: “أمسكها حتى تسأل عنها أخاك إبليس”.

ويظهر اعتداله ورأفته في المسائل الحربية تجاه من لم يحاربوا -الأطفال والنساء- حيث قال بوجوب حماية هؤلاء الضعفاء، وهو عكس ما ذهب إليه بعض الفقهاء حينما أفتوا بجواز رميهم ورمي حصونهم إذا تترس العدو بهم، وأفتى كذلك بتجنب رمي الحصون بالمنجنيق.

وأقر الأوزاعي بوقوع الحكم رغم الغياب وذلك بعد سماع البينة واكتمال شروط الحكم، وطُرحت مسألة الغائب الذي انقطع خبره ولا يُعرف مكانه ولا حياته من موته وما يترتب عنها، كبقاء الزوجة على عصمته أم يبطل ذلك الزواج، وقد مال الأوزاعي في رأيه بأن الزوجة تبقى على العصمة لمدة أربع سنوات متربصة ثم -إن لم يظهر الزوج- تعتد عدّة الوفاة.

ونظراً للاهتمام الذي أولاه المشرع من خلال الوحي أو اجتهاد الصحابة وفقهاء المذاهب للعلاقة مع غير المسلمين، فقد وصل الأمر بالذميين في العهود الأولى للإسلام بأن يقفوا إلى جانب المسلمين في نزاعهم وحروبهم ضد المسيحيين الروم، إذا يذكر صاحب فتوح البلدان أن مسيحيي الشام كتبوا إلى أبي عبيدة يقولون: “يا معشر المسلمين أنتم والله أحب إلينا من الروم، وإن كانوا على ديننا، أنتم أوفى إليها، ولكنهم غلبونا على أمرنا وعلى منازلنا…”، وذهب سكن حمص إلى إعلام المسلمين بأن ولايتهم وعهدهم أحب إليهم من ظلم الرومان وتعسفهم.

العودة للفهرس

الدرس الثامن:

الليث بن سعد
إمام مصر وفقيها

الليث بن سعد كبير الديار المصرية، عرض عليه أبو جعفر المنصور ولاية مصر فاعتذر عنها، وُلد في شعبان سنة 94هـ، في محافظة بنها، وأصله من أصبهان.

كان الليث من أثرى أثرياء عصره (دخله السنوي 80 ألف دينار، والدينار كان يساوي جرام وربع من الذهب – أكثر من 4 مليون دينار)، بالمقابل لم تجب عليه الزكاة؛ لأنها لم تكن تبقى عنده حولاً كاملاً.

وأكثر إنفاقه كان على العلماء دعماً لتفرغهم، وكان يرسل إلى مالك 1000 دينار سنوياً، في حين أرسل هارون الرشيد لمالك في ذلك العام 500 دينار.

وكان يُطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكّر، بالمقابل كان يأكل هو الخبز والزيت.

وفي علمه فاق مالك في المدينة بشهادة الشافعي حيث قال: “الليث أفقه من مالك إلّا أن أصحابه لم يقوموا به”.
وقال فيه يحيى بن بكير: “ما رأيت أحداً أفقه من الليث”.

سمع الحديث من صغره، حيث رحل وهو ابن عشرين إلى مكة ثم عاد إلى مصر، وقد أدرك أكثر من خمسين تابعياً ومئة وخمسين من تابعي التابعين.
وروى عنه كثيرون أمثال عبد الله بن مبارك وغيره.

وكان يجلس في كل يوم مجلساً يقسمه 4 أقسام، الأول للوالي يستشيره في حوائجه، وإذا أنكر على القاضي أو الوالي أمراً يكتب للخليفة فيأتي أمر العزل، والثاني لأهل الحديث، والثالث للإفتاء، والرابع لحاجات الناس فلا يردّ أحداً.

لم يهتم كثيراً بتنصيف المصنّفات، ولم يصل إلى أيدينا سوى شذرات، وذكروا أن له كتاباً اسمه “المسائل”، وآخر في التاريخ.

قال فيه ابن حجر العسقلاني في كتابه “الرحمة الغيثية في الترجمة الليثية”: “إن علم التابعين في مصر تناهى إلى الليث بن سعد”.

كان من أهل الأثر لا من أهل الرأي، فكان يعتمد على الكتاب والسنة والإجماع وفضّل الاعتماد على ما صحّ عنده من أحاديث وليس عمل أهل المدينة كمالك.
كما أنه توجه بالحركة الفقهية إلى الناحية الروحية والتركيز عليها.

وقد لجأ إليه هارون الرشيد حين أعضلته مسألة قَسَمُهُ على امرأته زبيدة حين تناظرا في شيء من الأشياء، بأنها طالق إن لم يكن من أهل الجنة، فجمع الرشيد الفقهاء وسألهم عن هذه اليمين، فلم يجد منها مخرجًا، ولم يجد في آرائهم ما أقنعه سوى رأي الليث حين جعله يقرأ من سورة الرحمن حتى بلغ قوله تعالى: ((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَان)) فاستوقفه الليث، وسأله: هل تخاف مقام الله؟ فقال هارون: نعم، إني أخاف مقام الله، فقال الليث: يا أمير المؤمنين، فهي جنتان وليست بجنة واحدة، فوجد هارون في ذلك برُّ يمينه.

وفي ليلة النصف من شعبان سنة 174هـ، تُوفي إمام مصر، وسارت له جنازة من أعظم الجنازات، وكأنهم يقولون:

ذهب الناس ومات الكمال … قوموا وانظروا كيف تسير الرجال

العودة للفهرس

الدرس التاسع:

المذهب الظاهري
من مصادر التشريع: الاستصحاب

الأدلة الشرعية المتفق عليها: القرآن الكريم – السنة النبوية الشريفة – الإجماع – القياس.

الأدلة المختلف عليها: الاستحسان – العُرف – سدّ الذرائع – شرع من قبلنا

والاستصحاب (من الصحبة وهي الملازمة) أو استصحاب الحال:

ويُعرّف أنه ملازمة الشيء لحكمه الأصلي ما لم يغيّره مغيّر شرعي.

من أمثلته:

الأصل في الماء الطاهرة حتى يثبت عدمها.

الأصل في البكر بقاء البكارة حتى تثبت الثيوبة بدليل.

بقاء الملكية للمالك حتى يثبت نقلها بدليل.

المفقود الغائب إذا توفي أحد أقاربه، هل يرث أو لا؟
بمقتضى استصحاب الحال، لو كان حياً فإنه يرث حتى يثبت موته.

المتيمم إذا رأي الماء في صلاته لا تبطل لأنه دخل الصلاة على طهارة.

الصائد إذا أحرم يأكل من صيده، ويبقى ملكه لأنه كان قبل إحرامه فسيصحب الحال.

مثل حكم من أخذ الربا من الصحابة قبل نزول تحريمها، أو استغفار الصحابة لأهليهم المشركين قبل علمهم بالنهي.

ومن السنة من سأل النبي عن الصيد إذا رماه ثم وجده ثاني يوم، فهل يأكل منه أو لا، فقال له: (إذا لم تجد فيه إلّا أثر سهمك فكل إن شئت).

أو في نواقض الوضوء، قال: (لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً).

  المذهب الظاهري

يُنسب المذهب الظاهري إلى داود بن علي الأصفهاني الذي يُعتبر مؤسساً له، فيما يُعتبر ابن حزم الأندلسي فقيهه المجدد الذي ساهم في التعريف به ونشره.

ظهر في القرن الثالث الهجري، وكاد أن يتلاشى، غير أنه عاد للظهور في القرن الخامس الهجري، حيث ولد داود بن علي سنة 200هـ بالكوفة (وتوفي سنة 270هـ)، وتلقى علمه عن كبار علماء العراق ونيسابور، وانتهت إليه رئاسة العلم في بغداد، وخلفه ابنه محمد في نشر المذهب وتعليمه.

يعتمد المذهب الظاهري على القرآن والسنة والاستصحاب، وانكسار إعمال العقل في التشريع، فالقاعدة عندهم تقول: “لا رأي ولا إعمال للعقل في الأحكام الشرعية”.

لذا فالمصدر الفقهي هو الأخذ بظواهر النصوص الشرعية من القرآن والسنة دون غيرهما، ويعتمد على الاستصحاب في غياب النص.

ألّف داود بن علي كتباً كثيرة، مثل: “الإفصاح”، وكتاب “الأصول”، وكتاب “الذّب عن السنة والأخبار”، وكتاب “الردّ على أهل الإفك”، وكتاب “صفة أخلاق النبي”، وكتاب “الإجماع وإبطال القياس”.

قالوا عنه كان بصيراً بالفقه، عالماً بالقرآن، من أوعية العلم، له ذكاء خارق، وكان ولده محمد فقيهاً متقناً، له بصر تام بالحديث مع ذكاء شديد، وقدرة على الجدل والمناظرة، وألّف كتاب “الوصول في معرفة الأصول”، وكتاب “الفرائض”، وكتاب “المناسك”، وكتاب “الزهرة”.

فانتشر المذهب الظاهري في الشرق في القرنين الثالث والرابع، حتى حلّ رابعاً بعد مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، ثم أخذ في الاضمحلال بعد أن مكنّ القاضي ابن أبي يعلى للمذهب الحنبلي، فزحزح المذهب الظاهري عن مكانه.

أما مجدد المذهب الظاهري فهو ابن حزم الأندلسي.

وُلد في سنة 384هـ في قرطبة في الأندلس، يُعدّ من أكبر علماء الأندلس، وأكبر علماء الإسلام تصنيفاً بعد الطبري.

وهو إمام حافظ فقيه الظاهري، بل ومُحي المذهب، شاعر وأديب، كان أبوه أحد وزراء المنصور بن أبي عامر، وهو من نسل الصحابي يزيد بن ابي سفيان رضي الله عنهما.

وقد وُلي الوزارة لخلفاء بني أمية في الأندلس، أشاد به علماء كثيرون أمثال: السيوطي، والإمام الذهبي والغزالي والفيروزآبادي.

وقد ألّف كثيراً فبلغت تصانيفه قرابة 400 مجلد تشمل 80 ألف ورقة، غير أن قربه من الأمراء والوزراء جعله يقع ضحية ذلك، حيث أمر المعتضد بحرق كتبه قُبيل وفاته سنة 456هـ.

العودة للفهرس

للتحميل
جميع الحقوق محفوظة 2024 © سبيلي
Scroll to top Scroll to top Scroll to top